ستظل أكبر خطايا حركة الضباط فى يوليو 1952م هى خطيئة (انفراد الحاكم بالسلطة).. وعدم إرسائهم لدعائم دولة مؤسسات قويه يحكمها الشعب بنفسه بواسطة حكام مدنيين.. ولعل الوحيد الذى أمن بأن ذلك كان أهم واجبات الثورة نحو الشعب هو المرحوم اللواء محمد نجيب بطل الثورة والفدائى الأول الذى قامت الحركة باسمه وأول من فتح الأفق الرحب لعصر ما بعد الملكية والذى دفع مكانته وحريته ثمنًا لمعتقداته عندما اصطدم فكره المثالى الحالم بطموحات وأطماع البكباشى . فبعد أن تمكن البكباشى (جمال) من أهم أدوات السلطة التنفيذية (أول وزير داخلية بعد 1952م) وتسليمها لأخلص رجال كل مراحل دولة القهر(زكريا محيى الدين) سيكون على البكباشى الجموح تأمين الجيش أولاً ثم إخراجه من الحكم ثانيا.. فينجح فى الأولى ويفشل فى الثانية وليدخل(الجيش فى السياسة) التى لن يخرج منها إلا بعد مائة عام كما قال الرئيس السادات لأنيس منصور فى حواراته الشهيرة معه بعد كامب ديفيد.. فيقوم بتعيين اضعف ضابط عرفته العسكرية المصرية(صديقه عبد الحكيم عامر) وزيرًا للحربية بعد ترقيته من رتبة بكباشى (مقدم) إلى رتبة لواء.. ويترتب على الاثنين هزيمة كل يوم (5 يونيو 1967م ) بكل ما أخرجته وتخرجه من هزائم اجتماعية وأخلاقية وعلمية وحضارية .. سيتم اعتقال الآلاف من الإخوان وتعذيبهم وإعدامهم.. بعد أن رفضوا أن تكون الجماعة جزءا من الدولة ومؤسساتها (؟!) .. فيترتب على ذلك نشوء أفكار التكفير والتطرف وثقافة الزنازين والعمل السرى المغلق ولتدفع الحركة الإصلاحية ثمنا كبيرا(فكريا وسياسيا) جراء التشوهات التى نتجت عن تلك الأفكار . سيتم ضرب العلامة السنهورى رمز العدالة والقانون والقضاء فى مصر الحديثة بالأحذية فى قلب مجلس الدولة.. وهو الرمز والأيقونة لحصن القضاء.. ليكون عبرة لهذا الحصن الحصين الذى عرف رجاله بالترفع والأنفة والكرامة .. وتبدأ (دولة البكباشى) لينفرد بالشعب الغلبان دون(دوشة) الاحتلال والاستقلال الوطنى أو الحكم بالدستور.. ويفعل ما يحلو له.. بعد أن (حررهم) من الاحتلال وعلمهم العزة والكرامة.. المفكر الكبير عباس العقاد حين سمع هذه الكلمة من(البكباشى)علق قائلا: إما أن الرجل فقد عقله.. أو أن الناس فقدوا عقولهم ..!!. وتدخل مصر فى أعوام شداد يابسات ذاخرة بالخيبات المتتاليات.. يتم فيها تجريد الشعب من نفسه..ويصبح مجموعة من الأفراد المبعثرون هنا وهناك.. يكفيهم الكفاف كما قال البكباشى(لكيرميت روزفلت) فى مارس 1952م (أن المصريين قد عاشوا على الكفاف لآلاف السنين ويمكنهم العيش على ذات النمط لمدة ألف عام أخرى)..!! مضت من الألف ثلاثة وستون سنة.. أصبح فيها الأحياء كالموتى والأمس كالغد.. رأى الناس فيها ما يفوق الكفاف.. القهر والهزيمة والبطش والتخلف والفقر والنفاق والتفسخ الاجتماعى والانهيار الأخلاقى وانعدام الأمل وانتشار اليأس.. قلت للعفريت أبدل كل أصحاب الصروح الفاسدة.. قال لى ما الفائدة..؟ سوف يأتى مثلهم أو ربما أكثر منهم مفسدة.. إنما تختلف الأسماء لكن المعانى واجدة.. قلت ما الحل إذن..؟ قال بسيط.. لو غدت أمالكم فى ذاتكم . حوار خيالى بين الشاعر الكبير أحمد مطر وعفريت الإبريق.. لكنه مليء بأدق توصيفات الواقع. أمالكم فى ذاتكم .. لم يدرك الإصلاحيون ذلك.. دائما كانت أعينهم على السلطة وأدوات الحكم .. لم يحدثنا أحد عن أن (الأمل ) الحقيقى فى ذاتنا أولا وثانيا وثالثا .. فى كتابه (الديمقراطية ونظام 23 يوليو) يرصد المستشار طارق البشرى تجربة (دولة البكباشى) فى مصر بعد خروج الاحتلال متتبعا دور الجيش المصرى فى السياسة وخاصة فى لحظات الأزمات السياسية التاريخية التى تعيد تشكيل المجتمع وخريطته السياسية من بداية عصر محمد علي(1805) ودور الجيش المحورى فى مشروعه.. كل مشروعات النهضة وقتها قامت على هامش الجيش !!.. ثم انتفاضة الجيش على النخبة الأجنبية الحاكمة للبلاد وللجيش فى 1881 م بزعامة أحمد عرابي. ثم تنظيم (الضباط الأحرار) داخل الجيش فى منتصف القرن العشرين وإطاحته بالنظام الملكى وبالحياة السياسية السابقة وبالأحزاب والحركات السياسية وبالدستور وإعادة تشكيل الخريطة السياسية والقيادة العامة للبلاد.. من الأمور التى ستجذب انتباهنا فى كتاب الحكيم البشرى.. هو كيف كان يرى(البكباشى وزملاؤه) الحياة السياسية والحزبية قبل انقلابهم/ثورتهم وسخطهم عليها وتنقلهم بين العديد من الأحزاب والحركات السياسية والجمعيات ثم استقلالهم عنها وتكوين حركة (الضباط الأحرار) متجاوزين فيها أى خلافات أيديولوجية بينهم وقصر أهداف الحركة على نقاط اتفاق عام. وهو ما لم يحدث فى الحقيقة فقد ظل كل منهم على ولائه الأيديولوجى والعقائدي. وإن تميز عنهم (جمال وعامر وأنور) بقصر الولاء والانتماء( للنفس) وما تحويه من عقد وصراعات لم يتصالحوا أبدا معها وظلوا يحملونها على رؤوسهم وفى جيوبهم وهم يحكموننا.. ويهدموا صرح الوطن ومؤسساته حجرا من بعد حجر. يرصد الحكيم البشرى بعين المؤرخ والفقيه.. أن (البكباشى) كان قد جمع فى قبضة يديه بين السلطات الثلاث(التنفيذية والتشريعية والقضائية) محركا إياها بواسطة الجهاز الأهم والأخطر في( بلد بيروقراطى شديد المركزية) وهو الجهاز الإدارى للدولة.. هيمن (البكباشى) ودائرته المغلقة على السلطة (التنفيذية) مباشرة بتعيين(رجاله)سواء من ضباط الجيش أو المدنيين ممن أطلق عليهم(أهل الثقة) وزراء فى الحكومات المتتالية.. واستولى على السلطة (التشريعية) وهيمن عليها فى السنوات (القليلة) التى تشكل فيها مجلس نيابى وذلك بإصدار قانون انتخاب يشترط لقبول أوراق المرشح فى المجلس أن يكون عضوا فى التنظيم السياسى الذى أنشأه النظام نفسه (الاتحاد القومى حتى عام 1962 ثم الاتحاد الاشتراكي) وليتحكم النظام فى هذا التنظيم تحكما تاما من إصدار لائحته الداخلية وتعيين قياداته مع سقوط عضوية النائب بالبرلمان إذا سقطت عضويته فى الاتحاد الاشتراكى !!! أما فى السنوات التى مرت بدون وجود مجلس نيابى فكانت التشريعات تصدر مباشرة باسم رئيس الجمهورية الذى اختصر فيه (رمز) الدولة و(قيمتها )أولاً وآخرًا...!! ستتم السيطرة على السلطة (القضائية) تماما.. بطريق مباشر وغير مباشر(بهيمنته على السلطتين التشريعية والتنفيذية) فصار من بيده إصدار القوانين والتشريعات هو من بيده(تعيين القضاة) وعزلهم بواسطة وزير العدل فاكتملت بذلك عناصر(الهيمنة التامة)على القضاء وسيطر عليها كذلك بشكل مباشر عن طريق إنشاء(المحاكم الاستثنائية) لمحاكمة رموز المعارضة السياسية للنظام ورموز السياسة فى العصر السابق بشكل عام ممن أطلق عليهم وقتها (أعداء الثورة) هذا إلى جانب الاعتداء الصارخ على (القضاء) بإعادة تشكيل (هيئات المحاكم) بقانون جديد للسلطة القضائية فيما عرف بمذبحة القضاء.. أما الأزمة الكبرى للنظام_والكلام للحكيم البشرى_ فقد نشأت من البداية بإنشاء العديد من الأجهزة الأمنية لإحكام السيطرة على(حركة المجتمع) ومراقبتها. فتحولت هذه الأجهزة(المخابرات الحربية والمخابرات العامة والمباحث العامة) إلى مراكز قوى كبيرة داخل مؤسسة النظام تحكمت فى الإدارة العامة للبلاد بشكل فاضح وفج .. بل وتحاربت فيما بينها فى محاولة كل منها فرض هيمنته على الأجهزة الأخرى أو مشاركتها مساحة عملها.. هذا الشكل من الحكم ولكى يحقق فاعليته اعتمد بوعى شديد القسوة والشراسة والاستباحة للدم والمال والعرض على ظاهرتى (الأمن) و(الإعلام) و(القضاء الاستثنائي)ليهيمن النظام/الدولة هيمنة تامة على سائر الأنشطة فى المجتمع باحثا عن(حماية نفسه).. لم يتم ذلك عبر طرح ما هو شرعى وحقيقى_كما يقول الحكيم البشرى_...متمثلا فى(الحريات الخاصة) و(حقوق الشعب) فرادى ومجموعات وليس عبر( التنظيمات السياسية) و(الأحزاب) التى ستكشف حركة الاجتماع البشرى.. وتقيس طبقاته ومصادر قوتها وأسباب اتساعها وانحسارها. فى كتاب (الزحف المقدس أحداث 9/10 يونيو 1967) يقول د/ شريف يونس _الماركسى الميول_ حينما خرج المصريون إلى الشوارع مطالبون جمال عبد الناصر بالتراجع عن قرار التنحى كانت هذه الحشود تعكس شعورا ووعيا متراكمين عبر 15 سنة من حكم جماعة الضباط الأحرار ومن ألحق بهم من المدنيين والعسكريين الآخرين. شكلت بالفعل أذهان الناس وعواطفهم وتوجهاتهم باستخدام تعبئة أيديولوجية متواصلة وكانت نتيجتها هى تحرك الناس على هذا النحو الفريد فى تاريخ( الهزائم الكبرى) للأوطان. ويعبر مفهوم الزحف المقدس عن فكرة وردت فى كتاب (فلسفة الثورة)ترى الشعب المرغوب فيه شعبا (مفتتا) إلى عناصره الأولية يسير أفراده ومؤسساته وراء (الضباط )كرجل واحد كما هو الحال تماما فى الاستعراضات العسكرية. ويضيف (أن شعبية عبد الناصر هى فى أساسها صنيعة الدعاية التى قامت باللعب على الانتصار السياسى فى معركة تأميم القناة 1956م والتضخيم من المكاسب التى حققتها فى الأساس الطبقات الوسطى(لا الفقيرة) من أجل تصوير النظام باعتباره نظام الفقراء والكادحين. الناس كانوا كما لو أنهم كالقطيع الذى يمكن سوقه بلا وعي). ..................... ثلاثة وستون عاما من احتكار العسكريين للسلطة وعدم تسليمها للمدنيين وقد كان انقلابهم على الرئيس محمد نجيب بعد أن نادى بالعودة للثكنات.. البداية المشؤمة لعقود من الخيبات المتتاليات . الدولة القوية القادرة المحترمة ينبغى أن تتساوى فيها مؤسسات الدولة (العسكرية والمدنية) فلا تحتكر إحداها السلطة وتتحكم فى مقدرات البلاد برؤيتها وحدها وإن كانت لإحداها أفضلية احتكار السلاح والقوة . ...................... من كان فى وضح الظهيرة تائها** هل يهتدى فى الليلة الليلاء؟ يا صاحبى هيهات تبصر مقلة ** تمشى وراء بصيرة عمياء .