المصريون بعد ثورة يوليو كانوا يرون أن "الناصرية" بالنسبة لهم هي "نهاية العالم"، مثلما اعتبر (فوكوياما) في انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتصار الولاياتالمتحدةالأمريكية في الحرب الباردة، "نهاية التاريخ"! الانتصارات سواء أكانت حقيقية أو "هوليودية"، تنقل الوعي العام إلى آفاق من الصوفية السياسية، تعتقد "الكمال" في "الدولة" إن كانت ديمقراطية أو في "الزعيم" إن كانت ديكتاتورية. هذا الاعتقاد قد ينتصر في النهاية على "الواقعية السياسية" ويتحول مع الوقت من مجرد "الاعتقاد" بالكمال إلى "اليقين" بالخلود.. ففي مصر عرف "الزعيم الخالد" وفي ليبيا اتشحت البلاد والمراسلات الرسمية بشعار "الفاتح أبدًا"! بعد هزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان عام 1988 وسقوط جدار برلين عام 1989، وضع (فوكوياما) كتابه "نهاية التاريخ" عام 1993. والكتاب عرف فقط بالشطر الأول من اسمه: "نهاية التاريخ"، وفي الأصل عنوانه هو (The End of History and the Last Man) ولم يلتفت الناس إلى الجزء الثاني من العنوان وهو "الإنسان الأخير"، على الرغم من خطورته وأهميته. الحدثان الكبيران، حملا (فوكوياما) على الاعتقاد بأن التاريخ توقف تمامًا، بانتصار النموذج الرأسمالي الليبرالي الغربي ممثلاً في الولاياتالمتحدة، وبتفوق الرجل الأبيض على كامل الجنس البشري، ممثلاً في المواطن الأمريكي السوبر!. وحقق كتابه أعلى مبيعات عام 1993، بعد أن تحول هذا "الاعتقاد" إلى "يقين"! بعد هزيمة يونيو عام 1967 انتهت ثقة المصريين في "اليقين السياسي" وكتب توفيق الحكيم "عودة الوعي" عام 1972 أي بعد وفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. وبالمثل.. بعد سبتمبر عام 2001، دفن تحت أنقاض برجي التجارة المدمرين، "يقين" الأمريكيين والأوروبيين ب"الدولة السوبر"، ووضع الفرنسي (إيمانويل تود) كتابه "ما بعد الإمبراطورية" عام 2004 وكتب الألماني (لوثر كامب) عن "حفلة الدولار انتهت" عام 2005، بعد الانهيار المطرد للجيش الأمريكي في أفغانستان والعراق.
عصر اليقينيات السياسية انتهى، وليس ثمة شيء يمكن التكهن به على وجه اليقين، فالحتميات السنن الكونية حق وحقيقة، والمقدمات تؤدي إلى النتيجة، ولكنها في النهاية لا تعمل مستقلة عن الله تعالى. كتبت هذا المقال في 7 يناير 2009، أي قبل سقوط مبارك والقذافي.. كتبته من قبيل إعادة روح التفاؤل عند المصريين ولدى المناضلين السياسيين في مصر، وفي لحظة كان الإحباط قد بلغ ذروته، وما كان في مصر كلها مَن يعتقد بخروج مبارك من القصر إلى السجن.. مَن كان يصدق في ذلك الوقت بأن بن علي في تونس "الرومانسية" والقذافي في ليبيا "الهادئة".. سيتركان السلطة الأول هاربًا والثاني مختبئًا في أنبوب صرف صحي بمدينة سيرت؟!.. فإن الكون ليس مِلكًا إلا لمَن خلقه.. وأن الأرض لله يرثها لمَن يشاء من عباده.. وتبقى حاضرة تجربة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل حين قالوا له: "فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون".. فكان التيه والذلة والمسكنة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.