تعليقا على مقالي "البرادعي.. والصوفية السياسية" كتب أحد القراء متهكما على "صوفيتي" و"يقيني" من أن البلد ستقع في يد مؤسسات القوة في مصر، حال خلا مقعد الرئاسة فجأة بدون أية ترتيبات "دستورية" لشغل الفراغ الكبير والخطير الذي سيخلفه غياب الرئيس المفاجئ. أحلت في المقال السادة القراء إلى سلسلة المقالات التي كتبها ضياء رشوان، والتي المح فيها إلى أنه لا توجد في مصر أية قوة منظمة قادرة على شغل أي فراغ سياسي كبير إلا المؤسسة التي بنيت عليها "مصر الحديثة" منذ محمد على، ودعا القوى السياسية المصرية، بالاستعداد ل"الجنرال" القادم والمحتمل والذي سيكون منتظرا منها أن تتقدم إليه ب"أجندة" جاهزة لمشاطرته إدارة البلاد من خلال أدوات مدنية.. وقلت أن هذا هو الاحتمال الأقرب إلى ملامسة السيناريوهات الأكثر موضوعية لمرحلة ما بعد الرئيس مبارك، ونحن هنا نتحدث عن "الاحتمالات" وعن"الممكن" وليس على "اليقينيات".. إذ انتهى بتراكم الخبرات ما يمكن تسميته "اليقين السياسي" وأذكر أني كتبت هنا منذ أكثر من عام عن هذه المسألة، وقلت: ثمة فرق كبير بين السؤال عن "غياب الرئيس" في عهد الرئيس عبد الناصر، وذات السؤال في عهد الرئيس مبارك. المواطن المصري بعد ثورة يوليو كان يرى أن "الناصرية" بالنسبة له هي "نهاية العالم"، مثلما اعتبر "فوكوياما" في انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتصار الولاياتالمتحدةالأمريكية في الحرب الباردة، "نهاية التاريخ"! الانتصارات سواء أكانت حقيقية أو "هوليودية"، تنقل الوعي العام إلى أفاق من الصوفية السياسية، تعتقد "الكمال" في "الدولة" إن كانت ديمقراطية أو في "الزعيم"إن كانت ديكتاتورية. هذا الاعتقاد قد ينتصر في النهاية على "الواقعية السياسية" ويتحول مع الوقت من مجرد "الاعتقاد" بالكمال إلى "اليقين" بالخلود.. ففي مصر عرف "الزعيم الخالد" وفي ليبيا اتشحت البلاد والمراسلات الرسمية بشعار " الفاتح أبدا"! بعد هزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان عام 1988 وسقوط جدار برلين عام 1989، وضع "فوكوياما" كتابه "نهاية التاريخ" عام 1993. والكتاب عرف فقط بالشطر الأول من اسمه: "نهاية التاريخ" وفي الأصل عنوانه هو "The End of History and the Last Man" ولم يلتفت الناس إلى الجزء الثاني من العنوان وهو " الإنسان الأخير"، رغم خطورته وأهميته. الحدثان الكبيران، حملا "فوكوياما" على الاعتقاد بأن التاريخ توقف تماما، بانتصار النموذج الرأسمالي الليبرالي الغربي ممثلا في الولاياتالمتحدة، وبتفوق الرجل الأبيض على كامل الجنس البشري، ممثلا في المواطن الأمريكي السوبر!..وحقق كتابه أعلى مبيعات عام 1993، بعد أن تحول هذا "الاعتقاد" إلى "يقين"! بعد هزيمة يونيو عام 1967 انتهت ثقة المصريين في "اليقين السياسي" وكتب توفيق الحكيم "عودة الوعي" عام 1972 أي بعد وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. و بالمثل.. بعد سبتمبر عام 2001، دفن تحت أنقاض برجي التجارة المدمرين، "يقين" الأمريكيين والأوربيين ب"الدولة السوبر" ، ووضع الفرنسي "ايمانويل تود" كتابه "ما بعد الإمبراطورية" عام 2004 وكتب الألماني "لوثر كامب" عن "حفلة الدولار انتهت" عام 2005، بعد الانهيار المطرد للجيش الأمريكي في أفغانستان والعراق. عصر اليقينيات السياسية انتهى، وليس ثمة شيء يمكن التكهن به على وجه اليقين، فالحتميات السنن الكونية حق وحقيقة، والمقدمات تؤدي إلى النتيجة ولكنها في النهاية لا تعمل مستقلة عن الله تعالى. ومصر ليست خارج السياق التاريخي، ولعل السؤال المتواتر الآن عمن سيحكم مصر بعد الرئيس مبارك، يعكس غياب "اليقين" بالمستقبل، مهما كانت المقدمات التي نراها والتي بدأت بالتعديلات الدستورية، وتشي بنتيجة.. البعض يتوقعها.. ويغالي آخرون ويعتبرونها "حتمية" على وجه اليقين.. فالمستقبل مفتوح على كل الاحتمالات ومن بينها ما لم يخطر على قلب بشر. [email protected]