إذا كان هذا العدد الكبير والمتزايد باستمرار من السياسيين والكتاب، والمهتمين بالشأن العام وكل الأحزاب السياسية وقوى فى أمريكا وأوروبا وإسرائيل يثيرون من سنوات قضية مستقبل مصر بعد مبارك - متعه الله بالصحة والعافية - والخوف من الفراغ الذى سيحدثه، فلا يمكن أن يجمعوا على وهم يتخيلونه، وأن يكون الحزب الوطنى والنظام وحدهما على صواب، عندما يؤكدان أن مصر دولة مؤسسات راسخة ويحكمها دستور ينظم انتقال السلطة فى حالة غياب مفاجئ للرئيس بأن يتولى رئيس مجلس الشعب رئاسة الجمهورية مؤقتًا إلى حين إجراء انتخابات للرئيس الجديد فى حوالى أربعين يومًا أو أقل، وهو ما حدث بعد اغتيال الرئيس السادات، عندما تولى المرحوم الدكتور صوفى أبوطالب، رئيس المجلس، الرئاسة مؤقتًا إلى أن تم انتخاب حسنى مبارك نائب الرئيس رئيسًا.. وكان يدير البلد فعلاً فى الأيام التى سبقت انتخابه، والملاحظ أن هذه المشكلة لم تثر اهتمام أحد فى عهد الزعيم خالد الذكر جمال عبدالناصر، والتنظيم السياسى الواحد بسبب وجود نائب له، وهو السادات، الذى خلفه بعد وفاته المفاجئة، وفى العهد الملكى لم يكن لهذه المشكلة وجود، فالملك يخلفه ولى عهده، وإذا كان قاصرًا يتشكل مجلس وصاية إلى أن يصل للسن القانونية، وهو ما حدث بعد وفاة الملك فؤاد، وخلفه ولى عهده فاروق، وعند خلعه بعد ثورة يوليو 1952، كان ابنه المولود أحمد فؤاد، وليًا للعهد وتشكل مجلس وصاية إلى أن تم إعلان الجمهورية، وعلى مستوى السلطة التنفيذية كانت هناك الأحزاب السياسية وأكبرها وأكثرها شعبية الوفد، الذى يتولى الحكم إذا كانت الانتخابات نزيهة وتتولاه أحزاب الأقليات العميلة للقصر الملكى عند تزويرها، أى كانت هناك معرفة مسبقة لدى الناس بمن سيخلف الملك أو سيتولى الوزارة، أو رئاسة الجمهورية رغم اختلاف طبيعة النظام السياسى. وكان من الطبيعى أن تظهر المشكلة للوجود فى عهد الرئيس مبارك لثلاثة أسباب، الأول، أنه لم يُعين نائبًا له، رغم مضى سنوات على توليه الحكم، وبدأت التساؤلات تتوالى، داخليًا، وخارجيًا، عمن سيخلفه إذا حدث له ما يحدث للبشر؟ وكان الرئيس يُواجه بهذا السؤال من الصحفيين الأجانب الذين يلتقونه، ثم بدأت الأسئلة فى مصر وكانت إجاباته تنحصر فى القول إن هذه مشكلة سيتم بحثها.. وأنه عندما يجد الشخص الذى يصلح سيختاره، وحدثت معارك على صفحات الصحف حول هذه القضية، وانتقلت من مناقشتها من زاوية الفراغ الذى ستتعرض له البلاد، إذا غاب الرئيس وعدم معرفة من يخلفه إلى مناقشتها من الناحية الدستورية، وهل يفرض الدستور على الرئيس تعيين نائب، وكانت الإجابات متعارضة، البعض قال، نعم، وآخرون قالوا لا، لعدم وجود نص ملزم. أما السبب الثانى الذى زاد من سخونة القضية فكان بروز جمال مبارك.. وإنشاء أمانة السياسات التى تفكر وتخطط للحزب وللوزارة، وبدأت التساؤلات والمعارك العلنية حول توريثه الحكم ومرة أخرى تم الرد على المعارضين بالقول، إنه حتى لو تولى فإن ذلك سيكون من خلال اختيار شعبى ديمقراطى بين متنافسين، أى لا توريث، بل التوريث يحدث إذا عين الرئيس نائبًا له، يفرضه على الشعب مثلما ورث السادات عن عبدالناصر، وورث مبارك عن السادات. أما السبب الثالث، فهو أن سلسلة القوانين الموجودة والإجراءات العملية التى يتم اتخاذها فعلاً حرمت الأحزاب السياسية من النمو الطبيعى وتجديد قياداتها وتقديمها للشعب كمرشحين محتملين، بالإضافة لسد الطريق أمامها للحصول على الأغلبية وتشكيل الوزارة، فالكل يعلم ويلمس أنه لا توجد حياة حزبية حقيقية يمكن أن تؤدى لتداول السلطة ولا يغير من هذا الواقع وجود حرية واسعة للصحف المعارضة والمستقلة.. وزيادة أو نقصان فى عدد أعضاء مجلس الشعب المعارضين والمستقلين.. أو التسامح مع موجات الإضرابات والاعتصامات، والاستجابة لبعض مطالب أصحابها، وكلها خاصة بالرواتب والحوافز ومطالب مادية، أو حتى اعتصامات لها مطالب سياسية مثل كفاية وغيرها من الحركات التى يتكاثر ظهورها، بالإضافة إلى أن الحزب الحاكم ومجلس الشعب لا يمكن القول بأنهما قادران على فرض إرادتهما على السلطة التنفيذية بل هما منفذان لما تريد، وظهور مركز قوة منظم وشرس يمثل رجال أعمال لهم مصالح خاصة بعضها يتناقض مع مصالح الأغلبية ويهدد الأمن القومى للبلاد ومستقبلها، وهى ظاهرة جديدة لم يكن لها وجود من قبل.. وقد رأينا أكثر من واقعة أكدت عدم صحة القول بقوة ورسوخ المؤسسات الدستورية.. ويكفى الإشارة إلى التعديلات التى أدخلها مجلس الشعب على العقوبات الخاصة بالنشر ووصلت إلى الحبس عشر سنوات فيما سمى بالقانون 93 لسنة 1995، وأشرف عليها أساتذة قانون على رأسهم الدكتورة فوزية عبدالستار، رئيس اللجنة التشريعية، ورغم المعارضة الهائلة صمم الرئيس على التعديل، ثم تصالح مع الصحفيين وأمر بإلغائها فألغاها المجلس عام 1996، وأنا هنا اتحدث عن أغلبية الحزب الحاكم لا عن المعارضة والمستقلين. والواقعة الثانية هى الخاصة بالتعديلات التى وافق عليها مجلس الشورى على قانون منع الممارسات الاحتكارية وتبناها وزير الصناعة، رشيد محمد رشيد، واتجهت أغلبية الحزب ومجلس الشعب لإقرارها وقبل التصويت بدقائق أدخل أحمد عز تعديلات وصدرت التعليمات لهم بالموافقة على ما اقترحه فوافقوا وخذلوا أنفسهم ومجلس الشورى والوزير والرأى العام كله، وهنا نتساءل: لنفرض أن الحزب الوطنى رشح أحد أعضاء هيئته العليا لانتخابات الرئاسة من الذين يعملون على بيع اقتصاد البلاد للأجانب أو رجل أعمال وليكن أحمد عز.. أو إبراهيم كامل الذى يقاتل علنًا لمنع إقامة المفاعل النووى فى الضبعة ويصفه بأنه شوية كهربا ويريد وغيره المكان لامتداد مشروعاتهم السياحية، وحمل مصر المسؤولية الكاملة عن مهاجمة إسرائيل لها، وتمت الانتخابات فى ظل القوانين الموجودة ونجح وأصبح رئيسًا لمصر، وتحت يديه السلطات الهائلة التى يتيحها له الدستور، فماذا ستكون عليه الأوضاع؟ وألا تدعو هذه الاحتمالات إلى الخوف من المستقبل وتدعونا للانتقال لمرحلة تسود فيها طريقة حقيقية وكاملة؟!