لماذا الدم المصري أرخص من أي دم آخر؟، ولايهتم المسئولون في بلدنا كثيرًا بالحفاظ على حياة المواطن المصري، كما تفعل الدول الأخرى التي يمكن أن تحرك جيوشها لمجرد أن مواطنًا لها قتل، وتجدها حريصة على القصاص لأرواح مواطنيها، بكل الطرق. يحضرني هنا ما فعلته تركيا تجاه مقتل عدد من رعاياها في هجوم إسرائيلي على السفينة "مرمرة" التي كانت في طريقها إلى قطاع غزة في عام 2010 لكسر الحصار عن القطاع، وكان على متنها أكثر من 500 متضامن معظمهم من الأتراك، ما أسفر عن مقتل 10من المتضامين الأتراك، وجرح 50آخرين. وهو الهجوم الذي كان سببًا ولاتزال في توتير العلاقات التركية الإسرائيلية، بعد أن رفضت "أنقرة" كل محاولات "تل أبيب" لتسوية الأزمة دون أن تتقدم باعتذار رسمي عن جريمتها، وقد حققت الأولى انتصارًا بقبول الدعوى التي رفعتها أمام المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في المجزرة، ومحاكمة الضالعين فيها. في حين أن دولة مثل أرمينيا العدو اللدود لتركيا لاتزال حتى بعد مضي 100عام على ما تقول إنها جرائم إبادة ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى أدت إلى مقتل مليون ونصف مليون أرميني تكافح على كل المسارات الدولية لانتزاع حقوق الضحايا، والحصول على اعتراف دولي بارتكابها، وتحرص على إحياء ذكرى "المجزرة" سنويًا في احتفال تدعو إليه قادة الدول المتعاطفة معها. وقد وجهت هذا العام الدعوة إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي للمشاركة، صحيح أنه لم يحضر، إلا أنه كانت هناك مشاركة كبيرة لوفد "شعبي" مصري، ضم 55شخصية، كان على رأسهم البابا تواضروس، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، وهي المشاركة التي حظيت بمباركة رسمية وتهليل إعلامي في مصر؛ بالطبع نكاية في تركيا، التي ترفض الاعتراف بالسلطة الحالية في مصر ولايترك رئيسها رجب طيب أردوغان، إلا ويكيل فيها الهجوم على ما يصفه ب "الانقلاب". استشهدت بالنموذجين السابقين، ولم أشأ أن أتحدث عما تفعله إسرائيل حتى الآن من ابتزاز لألمانيا، على خلفية مجازر "الهولوكست" التي ارتكبها الزعيم النازي "هتلر" بحق اليهود إبان الحرب العالمية الثانية، كي أتساءل: لماذا الدماء المصرية رخيصة إلى الحد الذي لاتجد فيه من يطالب بحقوق أصحابها، كما تفعل تركياوأرمينيا وحتى إسرائيل؟ قبل سنوات ثارت موجة واسعة من الجدل في مصر، بعد أن عرض في إسرائيلي فيلم وثائقي يكشف عن مجزرة قامت بها وحدة من الجيش الإسرائيلي بعد انتهاء حرب يونيو 67، حيث قامت بقتل 250 أسيرًا مصريًا عزلاً ودفنهم في سيناء، وبعض هؤلاء دفنوا أحياء. وكان على رأس الفرقة العسكرية الإسرائيلية "روح شاكيد" التي ارتكبت تلك المجزرة بحق الأسرى المصريين، بنيامين بن إليعازر الذي شغل لاحقًا عدة مناصب وزارية، ومن بينها منصب وزير الدفاع، والصديق المقرب من الرئيس المخلوع حسني مبارك. وتعود قصة المجزرة إلى نهاية حرب 1967، عندما كانت تقوم الوحدة العسكرية الإسرائيلية آنذاك بمطاردة وتصفية عناصر كوماندوز مصريين كانوا في قطاع غزة وحاولوا الوصول إلى سيناء، واستمرت المطاردة لعدة أيام بواسطة طائرات الهليكوبتر، وفي النهاية تم إحصاء حوالي 250 جنديًا مصريًا قتيلا. لم يكن الفيلم هو دليل الإدانة الوحيد ضد إسرائيل على ما ارتكبته من جرائم حرب ضد الأسرى المصريين في 67، فهناك العديد من الروايات الأخرى، ومنها شهادة لجندي مصري، أُسر مع 50 آخرين في منطقة بجوار قلعة العريش، قال "أثناء تجميعنا في مطار العريش يوم 8 يونيو 1967 أمرونا بالنوم داخل حظائر الطائرات بعضنا فوق بعض، وفي الصباح توفي 70 أسيرًا من الاختناق وتم دفنهم في حفر داخل المطار". وروى جندي آخر في سلاح المشاة تفاصيل مذبحة ارتكبتها الدبابات الإسرائيلية عندما قامت بمطاردة نحو 150 من الأسرى المصريين ودهستهم بلا رحمة. قال "بمجرد استسلامهم قامت الدبابات الإسرائيلية بمطاردتهم ودهسهم مثل العصافير". الجندي، الذي يحمل الرقم العسكري 46295، قال "أثناء وجودنا في معسكر عتليت، روى لي أحد الجنود المصريين أن آرييل شارون (والذي أصبح رئيسًا للوزراء فيما بعد) داس بالدبابات على بعض الجنود فقتلوا جميعًا". وقال أسير آخر "أثناء وجودنا في معسكر بئر السبع، شاهدتهم يقومون بدفن مصابين من الجنود الأسرى وهم أحياء، بعدما يأمرونهم بحفر قبورهم ثم يردمون التراب عليهم". وكانت أخطر الاعترافات تلك التي تتعلق بتجارة الأعضاء، حيث تم استغلال الأسرى المصريين كقطع الغيار البشرية، وكان السماسرة يجنون أرباحًا خيالية من بيع الأعضاء في أوروبا وإسرائيل. كما كان طلبة الطب هناك يتدربون على العمليات الجراحية على هؤلاء الأسرى. وقد اعترف أحد التجار، وهو إسرائيلي يعيش في باريس، "لقد رأيت بعيني عشرات من الأسرى وقد شقّت بطونهم أمامي بأيدي طلبة الطب الصغار، واقشعر بدني لهذه الطريقة البشعة". لم يكن ما سبق كافيًا على ما يبدو حتى تتحرك مصر للمطالبة بتحقيق دولي في تلك المجازر البشعة، والتي تندرج في إطار "جرائم الحرب"، فكان أقصى ما فعلته بعد عرض فيلم "روح شاكيد" في أوائل 2007، أن ألغى عمر سليمان مدير المخابرات المصرية وقتها لقاءً مع مسئول إسرائيلي بسبب الجدل الدائر في مصر آنذاك حول قتل الأسرى المصريين. وهو ما لم يفعله أحمد أبوالغيط وزير الخارجية وقتها، الذي عقد لقاء مع نظيرته الإسرائيلية تسيبي ليفني ببروكسل، التي سعت بدورها إلى احتواء الغضب الشعبي والإعلامي في مصر، بنفي ما نسب إلى الجيش الإسرائيلي من مجازر، وأعربت للمسئول المصري عن أمله في قيامه بجهد لتخفيف التوتر. منذ ذلك الحين لم نسمع أن مصر اتخذت خطوة واحدة، أو بادرت إلى التحرك دوليًا كما كان يفترض للمطالبة بالتحقيق في مضمون الفيلم الوثائقي الإسرائيلي، والذي كان يمكن اعتباره أفضل هدية تتلقفها مصر لاستغلالها في إدانة إسرائيل، والحصول على تعويضات مادية لأسر هؤلاء الأسرى المصريين. وهو الموقف الذي يكشف في حقيقة الأمر عن أن أرواح المصريين أرخص مما نتخيل في نظر المسئولين، الذين يطبقون الحكمة الذهبية بأنه "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب"، لن أخوض فيما تنشره الصحف الإسرائيلية عن وصول العلاقات بين إسرائيل ومصر إلى أفضل مراحلها حاليًا عن أي وقت سابق، لكنني أتوجه بالتساؤل في النهاية إلى من يعنيهم الأمر، أليس الصمت على حقوق الأسرى المصريين جريمة لاتقل جرمًا عما فعله الإسرائيليون؟!