لقد حالت الأحداث دون استكمال ما كنت بدأته منذ أقل من أسبوعين ، بشأن ظاهرة العداء للإسلام التي تتزايد في الغرب على وجه الاجمال ، و في آخر مقال لي في ذلك الشأن اتخذت من الحالة الفرنسية فيما عرف بأزمة الحجاب نموذجا باعتباره يمثل وجة النظر الرسمية ، و حاولت اثبات أن المسألة تتعلق ب"تدافع حضاري" حقيقي ، و ليس له علاقة ب"احترام" علمانية الدولة على النحو الذي تدعيه فرنسا أو غيرها من الدول الغربية حتى الان و كان آخرها منذ أيام قليلة عندما قررت سلطات محلية بألمانيا منع مدرسة مسلمة محجبة من مزاولة عملها إلا بعد خلع الحجاب! و أعود للتأكيد في هذا السياق إنه ليس ثمة صدقية للادعاءات التي قيلت أثناء الأزمة بأن القانون جاء استجابة لرغبة فرنسا ، في حماية الفتيات من أي شكل من أشكال الإكراه الذي يمكن أن تمارسه الأسرة أو ما تسمى بالتنظيمات الإسلامية المتشددة ، إذ إن تصرف الدولة ذاتها يتناقض مع هذا الادعاء ، و يأتي في هذا السياق نموذج الطالبتين ( ليلى 18 سنة ، وألما 16 ) حيث قررت إدارة المدرسة فصلهما لارتدائهما الحجاب رغم انهما ينحدران من عائلة يهودية مشهورة في فرنسا وأوروبا عموماً وهي عائلة " ليفي " ، والدهما "لوران ليفي" محامي يهودي معروف في فرنسا بمواقفه اليسارية ، و أمهما جزائرية مسيحية غير متدينة ، أي أن الحجاب في هذه الحالة كان ممارسة مبرئة من أي شبهة إكراه . و تكتسب حالة "ليلى و ألما" أهميتها من أنها كانت حالة غير ملتبسة ، و غير قابلة لتعدد القراءات و التأويلات ، و أضاءت حقيقة أن موقف المدرسة من الحجاب ممثلة للدولة كان موقفا "ثقافيا" لا "علمانيا" . أزمة الحجاب في فرنسا إذن كشفت عن أن العلمانية الفرنسية ، لا تمارس حضورها كوعاء حاضن للاختلاف و التعدد أي لا تمارس علمانيتها إلا من خلال الأطر الثقافية و الاجتماعية المهمشة ، أو تلك المفرغة من أية مضمون أو بنية "عقائدية نضالية" ، و التي لا تمثل تهديدا ل"هويتها الثقافية" و ليس ل"علمانيتها السياسية" ، مثل الجماعات الداعية إلى "عبادة الشيطان" أو "البوذية" أو "الزواج المثلي" أو الحرية الجنسية ، و ذلك على سبيل المثال لا الحصر . و من هنا فإن فرنسا لم تفشل في محاولتها دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي وإنما تعمدت تهميشهم ، و حصارهم داخل المناطق و الجماعات المهمشة ، و حشرهم داخل الأطر المشابهة ، الغير مؤهلة بطبيعتها للتمدد و التأثير الثقافي ، هنا و هنا فقط تظل العلمانية الفرنسية محتفظة ، بوظيفتها كمظلة يستظل بها التعدد و الاختلاف . و هذا شرط أساسي من الشروط التي تستقي منه العلمانية الفرنسية و حيويتها ، و لذا فإن فكرة دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي ، ربما تكون "واقعا" ، و لكن عندما يستسلم المسلمون لثقافة فرنسا و هويتها المسيحية ، و ليس الانصياع كما يدعى لمبادئ العلمانية ، فليس ثمة مشكلة في الأخيرة ، فهي في روحها و قوانينها تقبل هذا الاندماج ، متى تحررت من القيود الحضارية (أو الثقافية) و كذلك من أعباء الحفاظ على الجذور المسيحية للهوية الفرنسية [email protected]