من الواضح أن تيارات ثلاثة ما زالت تتجاذب حركة فتح وقيادة السلطة في سياق تعاطيها مع الفوز الذي حققته حركة المقاومة الإسلامية حماس في انتخابات المجلس التشريعي، أولها ذلك التيار الإستئصالي الذي يتبنى الخيار الجزائري ، أي الانقلاب العسكري وحل البرلمان وإعلان حالة الطوارئ ، أكان مباشرة ومن دون سابق إنذار ولا بحث عن الذرائع كي لا يضيع الوقت وتتشكل حقائق على الأرض يصعب الانقلاب عليها، أم كان على نحو أكثر ذكاءً يتذرع بضرورة عدم تعريض مصالح الشعب الفلسطيني للخطر في ظل قيادة "مغامرة" لا تدرك تعقيدات اللعبة السياسية العربية والإقليمية والدولية، فيما قد يتذرع بالتعارض في الصلاحيات بين زعيم منتخب قدم برنامجاً واضحاً لم يأخذ فرصته في التطبيق ، وهو ذاته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية التي تشكل مرجعية الشعب الفلسطيني، وبين كتلة برلمانية حققت الأغلبية!! مع إمكانية خوض لعبة الأرقام التي تشير إلى أن حماس لم تأخذ نصف أصوات الشعب الفلسطيني، وهو قول صحيح بالطبع، لكنه يتجاهل أن هذه هي اللعبة الديمقراطية عندما يعتمد قانون الدوائر، أكان منفرداً أم مناصفة مع قانون القائمة، كما في الحالة الفلسطينية، كما يتجاهل وقائع كثيرة مشابهة مثل حصول حزب العمال البريطاني على الغالبية وفوقها 66 مقعداًُُ على رغم حصوله على 36 في المائة من الأصوات، ومثل حصول حزب العدالة والتنمية التركي على ثلثي مقاعد البرلمان بحصوله على 33 في المائة فقط من الأصوات. يبدو أن هذا التيار الذي نتحدث عنه هو الأقوى داخل فتح؛ ليس بحضوره التنظيمي الحقيقي أو قوته الجماهيرية، بل بقدرته على شراء الكثير من الكوادر المتفرغين والخائفين على رواتبهم وامتيازاتهم، فضلاً عما هو أهم ممثلاً في الإسناد الخارجي، وهو هنا عربي تتصدره مصر، ومن ثم أمريكي أوروبي، وبالضرورة إسرائيلي، في حين تحركه مخاوف تعرض مصالح رموزه، وهي كثيرة للخطر، وما من شك أن حكاية الفساد ومطاردته بعد تقرير النائب العام الأخير، ربما دفعت نحو التحرك السريع وتنفيذ الانقلاب خشية أن تستتب الأمور لحماس ، ويأتي يوم الحساب بالنسبة إليهم، كما يتوقعون في أقل تقدير. يشار هنا إلى أن تقرير النائب العام لم يأت سوى على ذكر الفاسدين من الدرجة الثانية وربما الثالثة، فيما تجنب فاسدي الدرجة الأولى ممن لا يزالون يسرحون ويمرحون من دون أن يتجرأ أحد على مساءلتهم. يتصدر هذا التيار روؤس الأجهزة الأمنية وعلى رأسهم محمد دحلان في غزة ، وربما الرجوب في الضفة الغربية، ومعهم آخرون من رجال الأعمال والوزراء، فضلاً عن فلول اليسار الذي "تأمرك" واستفاد بشكل جيد من المرحلة الماضية، أكان من يسار فتح الأصلي أم من اليسار الذي تعلق بأذيالها بعد الحرب الباردة ، كما هو حال بعض رموز وثيقة جنيف ومن يدور في فلكهم. التيار الثاني في حركة فتح له صلة بالتيار الأول ويتداخل معه، لكنه يميل إلى طريقة أخرى تضرب عصفورين بحجر واحد، وتحقق هدفين كبيرين؛ أولاهما حرق حركة حماس وأوراقها التي استقطبت على أساسها الجماهير، لاسيما شعار المقاومة، وبالتالي استعادة السلطة من دون شبهة الانقلاب على العملية الديمقراطية، بل من خلال أدواتها، أي عبر انتخابات مبكرة، أو في موعدها المقرر إذا كان لا بد من الانتظار، حيث سيتم التلاعب بها بطريقة ذكية، وبالطبع من خلال توحيد حركة فتح في المواجهة بعد إقصاء بعض أعضاء اللجنة المركزية، ولا بأس بعد ذلك من الاستعانة بالخبرات العربية التقليدية في التلاعب والتزوير. ما يراه هؤلاء، وهم يحسدون بالطبع على ثقتهم العالية بأنفسهم ! هو أن بوسعهم النجاح في لعبة منح حماس حكومة من دون سلطة، وبالطبع عبر سرقة الملفات الأساسية ممثلة في الأجهزة الأمنية وجهاز السياسة الخارجية، فضلاً عن الأدوار الرئيسية في الوزارات والمؤسسات ، بما يضمن استمرار السيطرة على كل شيء ذي أهمية، مع ترك حماس تدبر الرواتب وتنظف الشوارع ، وتطالب بالهدوء بدل المقاومة، فضلاً عن تركها في مهب التنازلات من أجل تحصيل الاعتراف بها عربياً ودولياً!! ثمة تيار ثالث لا نعرفه، لكننا نفترض وجوده في حركة فتح، وربما عبّر عنه بشكل من الأشكال فاروق القدومي، رئيس حركة فتح ، وهو تيار تعنيه القضية ومستقبلها، حتى لو واصل التمسك بعصبيته الفتحاوية، وما من شك أن حماس تعول على هذا التيار، لاسيما داخل اللجنة المركزية التي لا شك تراقب كيف يحاول محمد دحلان الانقلاب عليها وسرقة الحركة من بين أيديها بدعوى تسببها في الهزيمة أمام حماس. إذا توفر هذا التيار وملك ما يكفي من الشجاعة لقلب طاولة التفاوض برمتها مستنداً إلى خيار الشعب الذي انحاز إلى خيار المقاومة، فإن بالإمكان التوصل إلى صيغة تفاهم مع حماس والقوى الأخرى في الساحة الفلسطينية ، تشكل منعطفاً تاريخياً بالنسبة للقضية الفلسطينية، وذلك عبر رفض كل الاتفاقات والمعاهدات السابقة، والبدء من جديد وفق رؤية يجمع عليها الفلسطينيون ، عنوانها دحر الاحتلال من الضفة الغربية وقطاع غزة من دون قيد أو شرط. ما من شك أن تجربة التفاوض البائسة هي الذريعة المقنعة بالنسبة لهؤلاء ، بعد أن قدموا كل ما يمكن أن يقدم من دون أن يحصلوا على شيء مقنع، وربما كان المسار المأمول هو إعادة تشكيل منظمة التحرير وفق أسس جديدة توحد الداخل والخارج ، وتأخذ في الاعتبار توزيع القوى الجديد في الساحة، لكن التحرك السريع يبقى مهماً في كل الأحوال. لو حصل ذلك لكان بوسع الفلسطينيين أن يعيدوا تشكيل اللعبة السياسية على نحو مختلف، يقلب الطاولة في وجه المجتمع الدولي، وفي وجه التراجع العربي أيضاً، وذلك من خلال حشد الشارع العربي والإسلامي من جديد خلف مرحلة مقاومة تستعيد ما وقع خلال انتفاضة الأقصى. ما نقوله ليس أوهام أو أحلام، بل طرح جدي يستند إلى واقعية النضال والتحدي، لا واقعية الهزيمة والاستسلام، ففي وقت تعاني فيه واشنطن الفشل أمام المقاومة العراقية ، ويتراجع مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي عول عليه شارون من أجل إخضاع الأمة، وفي وقت تعيش فيه الشوارع العربية حالة نهوض استثنائية، فإن مساراً كهذا سيشكل تحدياً لكل المخططات الأمريكية والإسرائيلية، وسيشكل محطة لانتصار فلسطيني كبير بعد انتصار غزة، ومن قبله انتصار جنوب لبنان. المصدر : الاسلام اليوم