عمرو درويش: موازنة 2025 الأضخم في تاريخ الدولة المصرية    تأييد حبس مدير حملة أحمد طنطاوي سنة في قضية تزوير توكيلات الانتخابات الرئاسية    صور.. وكيل "أوقاف الفيوم" يستقبل وفد الكنيسة الأرثوذكسية للتهنئة بعيد الأضحى    جامعة بني سويف في المركز 944 عالمياً والعاشر محلياً طبقاً لتصنيف RUR    وزير التعليم العالي: الجامعات الأهلية تمتلك زخمًا من الخبرات الأكاديمية    رئيس جامعة طنطا يتفقد الامتحانات بمركز الاختبارات الإلكترونية بالمجمع الطبي    مركز طبي ومزرعة بحثية.. رئيس جامعة الإسكندرية يتفقد المنشآت الجديدة بفرع تشاد (صور)    استقرار أسعار الذهب في مصر اليوم وتراجع عيار 21 بمقدار 5 جنيهات    «الإحصاء»: توفير 294 ألف وظيفة في القطاعين العام والخاص خلال 2022    الحكومة: مهلة 12 شهرا لمقاولي «الاسكان الاجتماعي» لتسليم المشروعات    البورصة تربح 5 مليارات جنيه في منتصف تعاملات اليوم الإثنين    بقيمة 7 مليارات جنيه.. صرف مستحقات المصدرين المستفيدين من الشريحة الأولى    لليوم الثالث.. التموين تواصل صرف مقررات يونيو والسكر ب 12.60 جنيه    شكري: تشغيل معبر رفح في وجود إدارة إسرائيلية على الجانب الفلسطيني أمر صعب    قانونية مستقبل وطن: مصر تلعب دورا أساسيا لنشر السلام من خلال سياسة رشيدة    الطيران الإسرائيلي يغير على أطراف بلدة حانين ومرتفع كسارة العروش في جبل الريحان    ألمانيا تستضيف تدريبات جوية لقوات الناتو    فرق الإنقاذ الألمانية تواصل البحث عن رجل إطفاء في عداد المفقودين في الفيضانات    كوريا الجنوبية تعلق اتفاقية خفض التوتر مع نظيرتها الشمالية    الرئيس الأوكراني يوجه الشكر للفلبين لدعم قمة سلام مقبلة في سويسرا    عاجل..مستقبل خوسيلو مع ريال مدريد الموسم المقبل    شوبير: محمد عبد المنعم رفض مد تعاقده مع الأهلي    "أبيض من جوا".. تركي آل الشيخ يوجه رسالة ل أفشة    "ما حدث مصيبة".. تعليق ناري من ميدو على استدعائه للتحقيق لهذا السبب    التشكيل المتوقع لودية ألمانيا وأوكرانيا ضمن استعدادات يورو 2024    حالة الطقس الآن.. ارتفاع الحرارة والعظمى تصل إلى 44 درجة    وظائف للمعلمين في المدارس اليابانية.. اعرف إجراءات التعاقد للمتقدمين    تحرير 111 محضرا في حملات تموينية على الأسواق والمخابز بالمنيا    رئيس بعثة الحج الرسمية: لم تظهر أية أمراض وبائية لجميع الحجاج المصريين    لطلاب الثانوية العامة 2024.. شاهد المراجعة النهائية للجيولوجيا والعلوم البيئية    الحماية المدنية تنقذ مركز شباب المنيب من حريق ضخم    شقيق الفنانة سمية الألفي يكشف تطورات حالتها الصحية بعد حريق منزلها    لماذا رفض الروائى العالمى ماركيز تقديم انتوني كوين لشخصية الكولونيل أورليانو في رواية "100 عام من العزلة"؟ اعرف القصة    صديق سمير صبري: سميرة أحمد كانت تزوره يوميا والراحل كان كريماً للغاية ويفعل الخير بشكل مستمر    بسبب وفاة والدة محمود الليثي.. مطربون أجلوا طرح أغانيهم    هل يجوز للمُضحي حلاقة الشعر وتقليم الأظافر قبل العيد؟.. معلومات مهمة قبل عيد الأضحى    ما عدد تكبيرات عيد الأضحى؟.. 3 أقوال عند الفقهاء اعرفها    وزير الصحة يناقش مع مدير المركز الأفريقي لمكافحة الأمراض تعزيز التعاون في القطاع الصحي    نقابة الصيادلة بالإسكندرية: توزيع 4 آلاف و853 عبوة دواء خلال 5 قوافل طبية بأحياء المحافظة    علقت نفسها في المروحة.. سيدة تتخلص من حياتها بسوهاج    رئيس جهاز القاهرة الجديدة يتفقد مشروعات «سكن مصر ودار مصر وجنة»    شوبير يكشف مصير ديانج وكريستو فى الانتقالات الصيفية    هل يجوز ذبح الأضحية ثاني يوم العيد؟.. «الإفتاء» توضح المواقيت الصحيحة    النقل تناشد المواطنين المشاركة في التوعية من مخاطر ظاهرة رشق الأطفال للقطارات بالحجارة    المكتب الإعلامى الحكومى بغزة: أكثر من 3500 طفل معرضون للموت بسبب سياسات التجويع    فيلم «التابعي.. أمير الصحافة» على شاشة قناة الوثائقية قريبًا    وزير الصحة: نفذنا 1214 مشروعا قوميا بتكلفة تقترب من 145 مليار جنيه    تحرك من الزمالك للمطالبة بحق رعاية إمام عاشور من الأهلي    أول تعليق من التعليم على زيادة مصروفات المدارس الخاصة بنسبة 100 ٪    شرف عظيم إني شاركت في مسلسل رأفت الهجان..أبرز تصريحات أحمد ماهر في برنامج "واحد من الناس"    كيفية حصول نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 بني سويف    محمد الباز ل«بين السطور»: «المتحدة» لديها مهمة في عمق الأمن القومي المصري    وزير الصحة: تكليف مباشر من الرئيس السيسي لعلاج الأشقاء الفلسطينيين    أفشة: كولر خالف وعده لي.. وفايلر أفضل مدرب رأيته في الأهلي    مقتل شخص وإصابة 24 فى إطلاق نار بولاية أوهايو الأمريكية    دعاء في جوف الليل: اللهم افتح علينا من خزائن فضلك ورحمتك ما تثبت به الإيمان في قلوبنا    مصرع 5 أشخاص وإصابة 14 آخرين في حادث تصادم سيارتين بقنا    الإفتاء تكشف عن تحذير النبي من استباحة أعراض الناس: من أشنع الذنوب إثمًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بلال فضل يكتب عن «برلمان الزعيم الملهم»
نشر في المصريون يوم 28 - 03 - 2015


بلال فضل
برلمان الزعيم الملهم.. أو “كيف ترشق الشعوب في الحيط”؟
(1)
في مساء 22 يوليو 1957، كانت قد مرت خمس سنوات على وعد ضباط ثورة يوليو 1952 للمصريين بتحقيق حياة نيابية سليمة، دون أن تشهد البلاد مجلسًا نيابيًا يعبر عن إرادة شعبها، الذي تتحدث باسمه الأغاني والمقالات والأفلام، معبرة عن ولاء الشعب للقائد الضرورة الملهم جمال عبد الناصر، الذي تجسد فيه الشعب، والذي شاءت إرادته بعد حوالي أربع سنوات من سيطرته على البلاد ومصادرته للعمل السياسي والحزبي والصحفي، أن يكون للشعب أخيرًا برلمان، تمت تسميته مجلس الأمة.

ليلتها، وقبل ساعات من الانعقاد الرسمي لأولى جلسات المجلس المعبر عن الحياة النيابية السليمة، استقبل حرس المجلس إشارة بزيارة عاجلة سيقوم بها مسؤول كبير؛ تم إعلان حالة الطوارئ بين صفوف الحرس، وبعد نصف ساعة فحسب، وصل إلى بوابة المجلس جمال عبد الناصر في سيارة عادية لا ترافقها حراسة، لكي لا يتعرف عليه المواطنون في الطريق، كان الزعيم الملهم قادمًا لكي يتفقد البرلمان، الذي سيراقبه ويحاسبه ويحكم باسم الشعب على قراراته وسياساته. دخل عبد الناصر قاعة المجلس، وصعد على المنصة، وقام بسؤال مرافقيه عن عدد الميكروفونات واتجاهها واختبر قوتها، ثم طاف بالبهو الفرعوني الشهير الذي كان يراه لأول مرة. وخلال تجوله في أنحاء البرلمان، رأى عددًا من التماثيل التي كانت قد تم صنعها لزعماء مصر قبل الثورة، فأمر بتخزينها فورًا، لكي تتحقق القطيعة الكاملة مع الماضي الذي قامت الثورة من أجله، لتبقى التماثيل في المخازن إلى الأبد، وليبقى معها حلم الحياة النيابية السليمة الذي ظل حتى الآن وهمًا لم تشهده مصر.

(2)

كانت أولى أزمات المجلس النيابي “السليم” معبرة للغاية، عن مدى سلامته وعن مستقبله أيضًا؛ فقبل أن يذهب النواب إلى المجلس أصلًا، نشرت صحيفة الأهرام صباح يوم الافتتاح خبرًا عن انتخاب عضو مجلس قيادة الثورة عبد اللطيف البغدادي كرئيس لمجلس الأمة بالإجماع، كما نشرت اسمي وكيلي المجلس المنتخبين، الذين كان أحدهما عضوًا آخر لمجلس قيادة الثورة، هو محمد أنور السادات. كان الأمر مستفزًا حتى لأعضاء المجلس الذين لا ينتمي أحد منهم إلى فئة “أعداء الشعب”، ولذلك؛ فقد تسبب ذلك الخبر في أزمة حادة تحت قبة المجلس. كما يكشف المحرر البرلماني المخضرم “محمد الطويل” في كتابه “برلمان الثورة تاريخ الحياة النيابية في مصر 1957 1977″، والذي بدأ كتابته عقب مقتل السادات عام 1981، مطلعًا على 750 مضبطة برلمانية، متحريًا الوقائع غير المسجلة بالاتصال بشهودها الأحياء.

بدأت الأزمة بعد أن انتخب المجلس لرئاسته المؤقتة أحمد صبحي الهرميل أكبر أعضائه سنًا، الذي دعا الأعضاء إلى انتخاب رئيس المجلس ووكيليه، وأعطى الكلمة لأول من طلبها، وهو الدكتور عبد الغفار متولي، الذي أدلى بكلمة غاضبة طلب فيها من رئيس المجلس أن يوجه نظر الصحف إلى عدم سبق الحوادث، معترضًا على الخبر الذي نشرته الأهرام عن انتخاب عبد اللطيف البغدادي ووكيليه بالإجماع، قبل أن ينعقد المجلس، معتبرًا أن ذلك يمكن أن يجعل الشعب يسيء فهم المجلس، ويتصور أن عليه إملاءات، ويبدو أن السادة الأعضاء قرروا أن يؤكدوا سوء الفهم ذلك، فتجاهلوا ما قاله زميلهم كأنه لم ينطق به، بل على العكس تمامًا؛ صاح العضو محمود العتال دون حتى أن يطلب الكلمة رسميًا، مطالبًا بترشيح عبد اللطيف البغدادي لرئاسة المجلس، ليصيح عضو آخر مطالبًا البغدادي أن يقف ويقول اسمه بالكامل؛ وقف البغدادي فورًا وردد اسمه بالكامل، فدوّى المجلس بتصفيق حاد، تخللته أصوات تعلن الموافقة على ترشيحه بالإجماع. ولكي يزداد طين الإجماع بلّة، وقف العضو شوقي عبد الناصر، شقيق جمال عبد الناصر، -طبعًا- ليعلن أنه طالما كان المرشح لرئاسة المجلس واحدًا، فلا ضرورة لإجراء الانتخاب على مقعد الرئيس؛ ليكون بالتزكية. وحين اعترض العضو محمود جلال على ذلك، رد عليه شوقي عبد الناصر بحماس شديد، وأيده العضو محمد علي قاسم، فصفق المجلس لهذا التأييد، ويبدو أن إصرار محمود جلال على التعبير عن رأيه والذي دعمه بمواد من لائحة المجلس، قد أربك الجميع، خاصة أن أداء محمود جلال كان قويًا بفضل تمرسه السابق في العمل النيابي؛ حيث كان عضوًا لمدة 8 سنوات في برلمانات ما قبل الثورة، ولذلك؛ فقد قرر المعنيون بالأمر تغيير “البروجرام”، ليتقدم عدد من المرشحين لمنافسة البغدادي على رئاسة المجلس، لتكون نتيجة “الانتخابات” كالآتي: البغدادي 332 صوتًا، محمود فهمي أبو كرورة 7 أصوات، محمد رشاد الحاذق صوت، إبراهيم الطحاوي صوت، ليعلن البغدادي رئيسًا للمجلس وسط تصفيق حاد صاحب كلمته التي أعلن فيها سعادته بانتخابه رئيسًا لأول مجلس نيابي يقوم في عهد الثورة المجيدة.

وبعد أن استمع الأعضاء إلى كلمة ألح في طلبها محمود جلال، العضو المتسرب من حياة نيابية سابقة، ذكّرهم فيها بتاريخ العمل النيابي في مصر، لكي لا يتصوروا أنهم يجلسون في ذلك المكان من فراغ، وطالب رئيس المجلس وقادة الثورة بإتاحة الحرية للمجلس ليكون خير ممثل للشعب حقًا وصدقًا، وهنا جاء الرد على كلامه بشكل عملي ومعبر؛ حيث قرر العضو محمد فوزي أبو سيف في كلمته أن يوجه التحية “إلى السيد الرئيس العظيم جمال عبد الناصر ورفاقه الذين كان لهم الفضل على الشعب المصري الذي أيدهم في ثورتهم، وسيكون المجلس بل ونحن لهم جميعًا درعًا نضحي بحياتنا في سبيل هذه الثورة وأبطالها”.

عندما رُفعت الجلسة للاستراحة، اكتملت المهزلة بتوجه العضو إبراهيم الطحاوي إلى رئيس المجلس في غرفته يعتذر عن مبادرته لترشيح نفسه، ويطلب سحب ذلك. وحين عاد المجلس للانعقاد، أعلن البغدادي طلب الطحاوي سحب ترشيحه واعتبار الصوت الذي أعطي له باطلًا، ليدور جدل عقيم حول ذلك الأمر، وتكتمل مسرحية انتخاب وكيلي المجلس الذين سبق الإعلان عنهما قبل انعقاده، وتظهر بعد ذلك نفحات النفاق والتملق كما وصفها محمد الطويل؛ حيث طلب العضو إسماعيل كامل عثمان أن يقوم مجلس الأمة بتكريم سيادة رئيس الجمهورية وزملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة، ليزايد عليه العضو محمد فوزي أبو سيف ويطالب بمنحهم عضوية مجلس الأمة الذي يفترض فيه أن يراقبهم، وترفع الجلسة الأولى للبرلمان بتلك الاقتراحات النفاقية على أساس أن تعود في مساء نفس اليوم، لسبب لا أظنك ستستغربه، هو الاستماع إلى أول خطاب للزعيم الملهم أمام برلمانه، الخطاب الذي جاء بالأمس ليراقب جودة الميكروفونات التي ستذيعه.

(3)

لم يكن حرص ضباط يوليو 52 على اختيار لفظ “سليمة“، لوصف الحياة النيابية التي يسعون لها، منفصلًا عن سعيهم لتوصيف الحياة النيابية التي قضت عليها الثورة بأنها كانت فاسدة ومعيبة، ولم يكن فيها ما يستحق أن يبكيه الشعب، ولأن “الدوي على الودان أمرّ من السحر“، فقد نجحت “دولة يوليو“، من خلال مناهج التعليم والأذرع الإعلامية والثقافية، في أن تنشر بين المصريين، جيلًا بعد جيل، روايتها المعتمدة والوحيدة عن الفساد الكامل للحياة النيابية التي كانت لديهم قبل الثورة، وأن الديمقراطية الحزبية التي شهدتها مصر لم تكن سوى أكذوبة لإلهاء الشعب عن مشاكله الحقيقية، وأن مجالس النواب التي سبقت الثورة كانت كلها تقوم بعمل تمثيليات سياسية يتواطأ فيها الجميع مع الملك، وعلى رأسهم حزب الوفد الذي كانت الأغلبية الشعبية تؤيده، ولذلك؛ فلا خير في حياة نيابية تقوم على التمثيل الحزبي والتنافس الانتخابي، بل على الانتخابات أن تتم بين من يثبت أنهم ليسوا من أعداء الشعب. ومع أن أغلب هؤلاء كان قد تم رميهم في السجون أو نفيهم إلى خارج البلاد أو حتى إعدامهم “بأمر الشعب“، إلا أن الأمر لم يسلم من غربلة دقيقة لكل المرشحين، تتم تحت سمع وبصر وبطش الأجهزة الأمنية التي تم تطوير أدائها القمعي، لتجعل من أسطورة القلم السياسي المرعب أضحوكة.

وفي ظل بحار من الطنطنة والتهليل والزعيق المستمر في الشعب أن “يرفع رأسه بعد أن مضى عهد الاستعباد“، غرق المصريون في أكاذيب عدم جدوى الحياة البرلمانية القائمة على المنافسة الحزبية والديمقراطية وحرية التعبير، وسلموا أمورهم للبرلمان المعقّم الخالي من أعداء الشعب والمواد المعارضة، والذي لن تدخله أبدًا قوى “ظلامية رجعية مناهضة لأحلام الشعب المصري كما يجسدها ويعبر عنها الزعيم جمال عبد الناصر“، ولذلك؛ أدينت الحياة النيابية والحزبية قبل الثورة دون أن يتم تقييمها بشكل عادل ومنصف، فيعرف المصريون أن قصور الأداء النيابي لتلك البرلمانات والأحزاب كان سببه تدخل القصر الملكي في العمل السياسي بالحل والمصادرة والقمع، مما لم يتح لتلك البرلمانات والحكومات المنبثقة عنها أن تمارس دورها على أكمل وجه، بدليل أنها حين كانت تأخذ فرصتها في العمل، كانت تحقق نتائج مهمة، سرعان ما تثير غضب القصر الملكي فيلجأ لحلها وتعطيل عملها، وبالتالي؛ فإن الحل لن يكون أبدًا بمصادرة إرادة الشعب من جديد، بحيث يلعب الرئيس القادم من الجيش دور الملك، بل أن يتاح للآلية الديمقراطية أن تعمل بكامل طاقتها، وليس أن يصور عسكر يوليو للشعب أن العيب لم يكن في تفاصيل إدارة العملية السياسية، بل في العملية السياسية نفسها وآلياتها الديمقراطية والنظام الحزبي كله، وأن الحل يكمن في إلغاء كل ذلك وتحويل الانتخابات النيابية من صراع سياسي على برامج مختلفة، إلى تنافس بين أناس يتفقون تمامًا في الفكر والسياسة والتوجهات، على أن يسمح لهم بالاختلاف على التفاصيل فقط، لتتحول المجالس النيابية إلى مجالس محلية، تصب جام غضبها على الوزراء المستجدين، والمسؤولين المساكين الذين لا يرتبطون بعلاقات قوية بالرئيس ومراكز القوة المسيطرة على البلاد.

(4)

بالطبع، لم يكن في مصلحة عسكر يوليو أن تقوم وسائل الإعلام -التي سيطرت عليها الدولة بالكامل قبل أن تؤممها بالكامل عام 1961- بتذكير المصريين بالنضال السياسي الذي خاضه آباؤهم وأجدادهم من أجل تأسيس حياة نيابية ديمقراطية تجعل الشعب يحكم نفسه بنفسه، وتضع “الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة“، وهو ما جعل مصر تشهد بين ثورتي 1919 و1952 تسعة برلمانات، كان من بينها ما تم إنشاؤه بالتزوير والقمع وإدارة البوليس السياسي، وكان من بينها ما جاء عبر انتخابات حقيقية أقبل عليها الشعب، والأخيرة تعرضت كلها لحرب شعواء من القصر الملكي، سواءً بمعاندة ما يصدر عنها من قرارات، ومحاولة إفراغها من محتواها، أو بالتضييق على نوابها النشطين، أو بتعريضها لقرارات الحل والإلغاء، بتهمة أنها تتجاوز حدودها وتنازع الملك في سلطاته.

كان ترتيب تلك البرلمانات كالآتي: البرلمان الأول الذي جاء عقب صراع سياسي طويل استمر لسنوات عقب ثورة 19، تم افتتاحه في 15 مارس 1924، ومع ذلك؛ فقد تعرض للحل في بداية دورته الثانية في نوفمبر من سنة 1924 بفضل ثغرة تم زرعها في دستور 1923، ليستغلها الملك فؤاد في إحكام سيطرته على البلاد. لكن هذا البرلمان الذي استمر عدة أشهر فقط، كان أسعد حظًا من البرلمان الثاني الذي تم حله في يوم افتتاحه، أي إن عمره لم يتجاوز ساعة واحدة، لأن الانتخابات جاءت ببرلمان وفدي اعتبره الملك صورة طبق الأصل من برلمان 1924. وبعد ذلك، جاء ائتلاف حزبي بالبرلمان الثالث في نوفمبر 1926، وقد تولى فيه زعيم الأمة ورئيس حزب الوفد سعد زغلول رئاسة مجلس النواب، تاركًا رئاسة الوزارة لعدلي يكن، خصمه السياسي اللدود وزعيم معارضيه. ومع أن ذلك المجلس قام بخطوات تشريعية ورقابية مهمة، فقد تم حله في بداية سنة 1928 بسبب انتهاء الائتلاف الحزبي واستغلالًا لوفاة سعد زغلول.

في نهاية سنة 1929، جاء البرلمان الرابع لكنه لم يُعمّر أكثر من خمسة أشهر ليعلن قرار حله بعدها، ثم يتم إلغاء دستور 1923، ويعلن الطاغية إسماعيل صدقي المدعوم من الملك دستورًا آخر جاء ببرلمان خامس تم صناعته على عين إسماعيل صدقي وبدعم أجهزة أمنه. وبعد نضال شعبي مبهر وملهم استمر عدة سنوات، وفي سنة 1936، عاد دستور 23 من جديد، وأقيمت انتخابات شعبية حرة، جاءت بالبرلمان السادس الذي سيطر عليه حزب الوفد الذي كان زعيمه مصطفى النحاس قد تحول إلى أيقونة شعبية، ليتم حل ذلك البرلمان في أبريل 1938، ويعقبه البرلمان السابع الذي تم حله عقب أزمة 4 فبراير 1942 الشهيرة والتي وصلت بالخلاف بين الوفد والقصر إلى منتهاه، وأتاحت الفرصة لكثير من أحزاب الأقلية أن تصطاد في المياه العكرة، وتستغل دعم الإنجليز لمصطفى النحاس في مواجهة الملك، بتصوير الوفد بأنه خان الوطن والشعب، في الوقت الذي كان النحاس قد تبنى فيه رأيًا بأن الخطر الحقيقي على الأمة المصرية يكمن في إلغاء الملك لإرادتها، وأنها لن تتحرر من الإنجليز إلا إذا قامت بحماية الدستور الذي يضمن حكم الشعب المصري لنفسه، لتبقى البلاد في خضم تلك المعارك السياسية دون برلمان، حتى جاء البرلمان الثامن الذي تم انتخابه في يناير سنة 1945، وهو البرلمان الوحيد الذي أكمل دوراته الخمس إلى نهاية سنة 1949، ثم جاءت الانتخابات في يناير سنة 1950 ببرلمان هو التاسع الذي ظل قائمًا حتى أطاحت به ثورة يوليو 1952.

كان مستحيلًا أن تسمح دولة يوليو بتذكير الشعب المصري بكل ما صاحب تلك المسيرة من نضال حقيقي، ولا بأن الدعوة إلى الثورة على الملكية بدأت أصلًا من داخل البرلمان في عدة مواقف تاريخية أعلنها عدد من النواب من مختلف الأحزاب، ولا أن يتم تذكير الشعب بعدد من القوانين المهمة التي حققها البرلمان الوفدي الوحيد الذي أكمل دورته في مجالات التعليم والري والتموين والصحة والسياسة الخارجية، برغم أن ذلك تم في ظل تعرض الوفد نفسه للكثير من الأزمات، بعد انشقاق عدد من قادة الوفد المهمين، وتغول جناح فؤاد سراج الدين داخله، ومع ذلك؛ فقد ظل النحاس قادرًا على المناورة والمبادرة، وتجديد دماء الوفد بضم العديد من العناصر اليسارية والمتمردة إليه، لكن كل ذلك لم يؤت ثماره بسبب احتكام الأزمات السياسية التي تسبب فيها الملك فاروق وحاشيته، والتي أوصلت البلاد إلى طريق مسدود، كان ينذر بانفجار شعبي حاشد، أجهضه قيام العسكر بحركتهم التي وصفها المصريون بالمباركة، لأنها حققت أحلامهم في الخلاص من الملكية الفاسدة.

ومع أن الجيش كان قد وعد الشعب بأن يعود إلى ثكناته فورًا، ليترك لممثلي الشعب تحقيق أهداف الثورة وأحلامها، إلا أن الأمر انتهى نهاية حزينة، بعد تواطؤ الإخوان المسلمين وعدد من القانونيين المنتمين لأحزاب الأقلية على تحريض قيادات الثورة ضد الوفد وغيره من الأحزاب الكبيرة، ومطالبتهم على طريقة “كمل جميلك” بأن يقوموا بتطهير الحياة السياسية من تلك الأحزاب التي تم تحميلها كل خطايا العهد السابق، وإهالة التراب على سنوات من النضال السياسي والشعبي، ليظهر وكأن تاريخ الحرية والكرامة بدأ مع مجيء العسكر إلى الحكم، ولينتهي الأمر بتخلص العسكر من الوفد وغيره من الأحزاب، ثم بتخلصه من الإخوان والقانونيين الذين ساعدوه، ثم بتخلصه من قوى اليسار المتناحرة والسيطرة على النقابات والصحف، وخنق المجال السياسي، ليصبح الأداء السياسي المسموح به متاحًا فقط تحت قبة مجلس الأمة الذي ذهب الزعيم الملهم ليتفقده قبل افتتاحه.

(5)

كان مجلس الأمة الجديد، كما رأينا ومنذ افتتاحه، مصنوعًا على مقاس دولة الضباط وطبقًا لمواصفاتهم السياسية القياسية. ومع ذلك، فقد تسرب إليه بعض الأعضاء الذين خرجوا على النص، كان أشهرهم النائب أبو الفضل الجيزاوي الذي قدم سؤالًا حول أوضاع المعتقلين السياسيين، رد عليه زكريا محيي الدين، وزير الداخلية وعضو مجلس قيادة الثورة، بشراسة، نافيًا وجود أي معتقلين سياسيين في مصر، وبرغم أن النائبة راوية عطية حاولت مساندة زميلها الجيزاوي في سؤاله، إلا أن القضية أقفلت بالتجاهل، ليعود المجلس إلى دوره المرسوم بإقرار القوانين التي كان يحتاج عبد الناصر إلى إصدارها عبر المجلس، بدلًا من أن يعلنها بنفسه مسبوقة بعبارته الأثيرة “باسم الشعب”. ومع أن المجلس لم يخذل زعيمه الملهم في كل ما طلبه من قرارات، إلا أن ذلك لم يمنع الزعيم من إصدار قرار جمهوري بحل المجلس في أغسطس عام 1958، لتختفي أي مظاهر نيابية حتى لو كانت صورية من مصر، لمدة سبعة أعوام؛ حيث لم تعد إلا حين قرر عبد الناصر في مارس 1964 أنه بحاجة إلى برلمان ديكوري جديد.

وربما لو كان البرلمان الذي أعاده عبد الناصر في منتصف الستينيات يمثل كيانًا شعبيًا سياسيًا حقيقيًا، لقام بمحاسبة عبد الناصر ومراقبته وإيقاف الكثير من المسؤولين عند حدودهم ومنعهم من العبث بالبلاد، ولكان صعبًا أن تشهد مصر تلك الهزيمة المذلة في 1967، لكنه كان برلمانًا صوريًا مصنوعًا بانتخابات كرتونية تتحكم فيها الأجهزة الأمنية، تمامًا ككل البرلمانات التي أعقبته في عهدي السادات ومبارك؛ حيث بدأت تتزايد شيئًا فشيئًا المساحات المسموحة لنواب المعارضة، لكي يضفوا شرعية على القوانين والقرارات التي تخرج دائمًا حاصلة على الأغلبية الساحقة الماحقة، ومطابقة لرضا ولي النعم وطلبات حاشيته.

(6)

حين عادت البلاد ثانية لبرلمان الصوت الواحد في عام 2010، حيث لم يسمح حتى للمعارضة الكرتونية بأن يكون لها مكان تحت القبة، جاءت ثورة يناير لتطيح بحسني مبارك وحكومته وبرلمانه، وشهدت مصر بعد الثورة برلمانًا منتخبًا حقيقيًا لأول مرة منذ حكمها العسكر، لكن المؤسف أن الفائزين فيه والذين كان أغلبهم من أعضاء جماعة الإخوان والتيارات السلفية، قاموا بتحويل عدد من جلسات البرلمان إلى مسرح هزلي، ينشغل بأشد القضايا هامشية وإثارة للجدل الشعبي، ورفضوا تمرير قوانين مهمة كان يمكن أن تساعد على محاكمة المسؤولين المتورطين في القتل وإعادة الأموال المهربة وتحرير الإعلام من سطوة الأجهزة السيادية، وساعدت الكثير من المواقف التي اتخذوها بالتنسيق مع المجلس العسكري على إشعال نار الاستقطاب السياسي وتخييب الآمال التي عقدها الكثير من شباب الثورة على المجلس، دون أن يدركوا عنصر الوقت الحاسم، خصوصًا عقب الثورات، ليرتبط العمر القصير لذلك المجلس، قبل حله بقرار من المحكمة الدستورية العليا، بشعار “وزير الداخلية قال ما فيش خرطوش يبقى ما فيش خرطوش” الذي رفعه رئيسه سعد الكتاتني دفاعًا عن الداخلية والجيش خلال مذبحة محمد محمود، ولذلك؛ لم يأسف عليه الكثيرون من شباب الثورة والمشاركين فيها حين تم حله.

في الوقت ذاته، وفي ظل عجز المشاركين في الثورة عن تشكيل تنظيمات سياسية قوية تفرض مطالبها بشكل واضح، قامت أجهزة الإعلام المدعومة من الجيش والأجهزة الأمنية، باستغلال كل الممارسات الغريبة والصادمة التي قام بها قادة تيارات الشعارات الإسلامية تحت قبة ذلك المجلس قصير العمر وخارجه، لشن هجوم شرس على الديمقراطية والعمل النيابي والحزبي، وظل ذلك المنطق الكريه يكتسب أرضًا شعبية مع كل قرار خاطئ يقوم به الرئيس الإخواني محمد مرسي، ومع كل تصريح منفلت يصدر عن أي مسؤول إخواني أو حليف سلفي. وبعد أن تم عزل مرسي عن الحكم، وجاءت لحظة طلب التفويض الشعبي التي قفز فيها عبد الفتاح السيسي على السلطة، ليصادر على مطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة، كان لا بد أن تعود لاءات “لا حرية لأعداء الشعب، لا للأحزاب الكرتونية، لا لعملاء الخارج، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” لتدوي في سماء الوطن، ويتم إخراس وتخوين كل من يطالب بمناخ ديمقراطي سليم تبتعد أجهزة الأمن والمخابرات عن التدخل فيه، وتشويه كل من يطالب أجهزة الإعلام بعدم تجاوز القانون بناءً على طلبات من يدفع لها ومن يحركها، ليبقى المجال السياسي في النهاية حكرًا على من ينالون رضا الأجهزة الأمنية، ليُصنع من هؤلاء الآن مشروع برلمان على مقاس الزعيم الملهم، لتعيد مصر ذلك الفيلم الهابط من جديد وبحذافيره، على أساس أنه يمكن أن يفضي إلى نهاية سعيدة هذه المرة.

إزاي؟ ما تفهمش!

· المصدر: موقع "التقرير"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.