حادث العبارة المؤلم ماذا نملك أن نقول لضحاياه سواء من نجوا فعلا أو من فقدوا ذويهم ؟ ماذا بعد الغضب والمطالبة بالقصاص والتعويض والبكاء وكلمات المواساة ؟ وماذا بعد أن ينفض مولد الاهتمام وينصرف الناس كعادتهم دائما لمباشرة شئونهم الخاصة ويبقي الضحايا المنكوبون مع ذكرياتهم المؤلمة ومشاعر الألم والخوف والفقد التي عانوها ؟ وكيف يمكنهم استئناف حياتهم مرة أخري بعد تلك الصدمة التي ربما تغير مسار حياتهم تماما؟ لا نملك إلا أن نقول لهم " دعونا نتجاوز الأمر " إنها دعوة عاقلة لمواجهة الأزمات التي لا حل لها ، فلا فائدة من البكاء على اللبن المسكوب ولن يجدي كثيرا استرجاع الموقف وإبقاؤه حيا أمام أعيننا نتعذب به وتستغرقنا دوامات الأسئلة المريرة لماذا حدث ؟ ولماذا نحن بالذات ؟ فكلها تساؤلات تتصل بأمر حدث بالفعل ولا يمكن استعادته أو منعه أو تعديله. سلسلة من الأعراض تداهم الإنسان في مثل تلك الأحوال وهي ما تعرف بحالة " ما بعد الصدمة " سواء كانت فقد عزيز أو التعرض لحادث مرعب أو صدمة عاطفية أو المعاناة وتحمل المعاملة السيئة والظروف القاسية " خاصة بالنسبة للأطفال ". ولأن إرادة الحياة هي الأقوى دائما ومهما كانت قسوة الموقف فأننا ننجح غالبا في تجاوزه ونتعدى خط الخطر ، في تلك اللحظة نشعر بالارتياح ونحمد الله على استجابته لدعاءنا بزوال الخطر ونتلقى من أحبائنا المساندة والدعوات الصالحة. ينتهي الأمر وينشغل الأحباب والأصدقاء بأمورهم ونكون مطالبين باستئناف حياتنا كما كانت ، لكننا نفاجأ بصعوبة ذلك وبأن المرحلة التالية لزوال الخطر وانتهاء الأزمة هي المرحلة الأصعب ،خاصة عندما يصر الآخرون أن كل شيء قد انتهي وعلينا ألا نشكو ، بل إننا نواجه أنفسنا بقدر كبير من اللوم والحنق ، لأننا كنا نتوهم أن تجاوز الأمر والوصول إلى الضفة الأخرى من شاطئ اليأس سينهي الحيرة والقلق ويمكننا من استعادة حياتنا ، فلماذا لم يحدث ذلك بعد أن وصلنا فعلا ؟ وبعد انتهاء الأزمة نمر بمرحلة حرجة تحتاج للاهتمام حتى لا تترك آثارها السيئة في نفوسنا طول العمر ، فكما نهتم بعلاج إصابات الجسد علينا الاهتمام بإصابات الروح. ذكريات الصدمة أو الأزمة تظل حية كأحلام مؤرقة تقتحم عقولنا إنها ذكريات تلهب الدائرة العصبية المسئولة عن الانفعالات وتحدث جروحا عاطفية تترك بصماتها على المخ. ويختلف الناس في مدي تأثرهم بالصدمات باختلاف قدرتهم على المقاومة ومدي استيعاب الجانب العاطفي لديهم للانفعالات . فمن يقاوم ويبذل قصارى جهده أثناء الأزمة يقل تأثيرها السيئ عليه بالمقارنة بمن استسلم وآثر السلبية التامة إزاءها ، كذلك من أمكنه توقع واستيعاب الانفعالات المصاحبة أقل تأثيرا فمن فوجئ بما لم يكن في حسبانه. في كل الأحوال هناك خطوات يحددها العلماء لامتصاص الآثار الجانبية التابعة للصدمة ، أولها استعادة الإحساس بالأمان ويساعد الأهل والأصدقاء المقربون في بث هذا الإحساس. بعد ذلك لا بد من تذكر تفاصيل الأزمة وسردها بهدوء لمن نثق به فلا يجب أن نتكتمها أو نتجنب ذكرها ، البوح يخفف الآثار السلبية ويطلق المشاعر المختزنة والدموع الحبيسة ومعها إفرازات الألم والقلق والتوتر. إن إعادة سرد وترتيب أحداث قصة الصدمة في مرفأ السلامة يتيح الفرصة لفهم جديد أكثر واقعية وأقل حساسية فمن المفترض مع ترجمة التفاصيل الحبيسة والمشاعر إلى كلمات أن تكون الذكريات قد أصبحت خاضعة للسيطرة بشكل أكبر ومع الوصول إلى هذه النقطة يمكن التحرر من قبضة الماضي والتطلع للمستقبل لبناء حياة جديدة. لا بد من التعبير عن الندم والإحساس بالخسارة فهو شعور طبيعي لا يجب إخفاؤه ، إن التعبير عما سببته الصدمة من خسارة سواء نتيجة ظلم وقع على الإنسان أو وفاة عزيز أو انفصال عن علاقة أو ندم على موقف لم يفعله لإنقاذ شخص ما أو حتى فقد الثقة فيمن ظن أنه محل ثقته ، هذا الحزن علامة على قدرة الإنسان على التخلص من الصدمة بدرجة ما ، بعد البوح والتعبير عن الألم تبهت الذكري ويخف أثرها . وبتقوية الإرادة والتسليم بقضاء الله يمكن البداية في بناء حياة جديدة طبيعية بعد استيعاب آثار الصدمة وتصفيتها واستعادة القدرة على مواجه الحياة .