بدا رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان متفائلاً بالمستقبل خلال زيارته إلى القاهرة الأسبوع الماضي، فثقته الشديدة بنفسه وشعبه أضفت عليه رونقًا وأظهرته قويًّا في لحظة تواجه سياسته الإقليميَّة فيها تحديًا هائلا من جرَّاء تفاقم الأزمة. ويا لها من مفارقة تلك التي جعلته يظهر قويًّا واثقًا وهو يتحدث في افتتاح جلسة لمجلس الجامعة العربيَّة كانت مخصصةً لمتابعة الأزمة السوريَّة التي تضعف مشروعه الإقليمي. فقد استند هذا المشروع إلى علاقة خاصة جدًّا مع سوريا التي جعلتها تركيا مدخلها إلى العالم العربي، ولذلك يواجه هذا المشروع خطرًا لا يمكن إخفاؤه. فقد صار رصيد تركيا الإقليمي الذي راكمته على مدى سنوات مهددًا بالخطر بسبب عدم قدرتها على اتخاذ قرار حازم ونهائي فعلا إزاء توسع النظام السوري في استخدام إرهاب الدولة ضد الاحتجاجات. أصبح موقفها الذي يناور بين النظام ومعارضيه عرضة للانكشاف عندما بدأت دول عربيَّة في كسر حاجز الصمت منذ أن اتخذ بعضها مواقف تراوحت بين استدعاء سفرائها لدى دمشق للتشاور ومطالبتها بوقف العمليَّات العسكريَّة وإجراء إصلاحات فعليَّة، والتحذير من أن الأزمة بلغت طريق اللاعودة، ثم مناقشة هذه الأزمة في اجتماع مجلس وزراء الخارجيَّة يوم 27 أغسطس الماضي، وإيفاد الأمين العام للجامعة إلى دمشق وصولا إلى الاجتماع الثاني لمجلس الجامعة بشأن سوريا الثلاثاء الماضي. لم يكن هذا التطور في الموقف العربي هو العامل الوحيد وراء رفع الغطاء عن المأزق التركي؛ فقد اضطرَّت طهران وهي الحليف الأول لدمشق إلى المطالبة بالاستجابة للمطالب الشعبيَّة المشروعة، بالرغم من أنها أثارت سأم العالم من كثرة حديثها عن مؤامرة على سوريا. هكذا أصبحت تركيا في اختبار صعب بشأن كيفية الخروج من المأزق الذي ترتب على وضع قسم كبير من أوراقها في سلة نظام الأسد خلال السنوات الأخيرة عندما جعلته مدخلها إلى دورها الإقليمي الجديد، ولذلك لا يزال صعبًا على تركيا أن تحسم موقفها وتحجز لنفسها مكانًا في قطار التغيير في سوريا، ورغم أنها فتحت حدودها أمام آلاف السوريين الفارين من القمع، فهذا موقف إنساني لا يغني عن الموقف السياسي، وإلا لكان المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا وضع مصر ضمن الدول التي وجَّه إليها الشكر عقب سقوط طرابلس وهي التي فتحت حدودها أمام كل أشكال الغوث الإنساني وشجعت عليه، ولكنها ترددت في اتخاذ موقف سياسي حاسم خوفًا على المصريين العاملين في ليبيا. كما أن امتنان السوريين لاستقبال تركيا لاجئين على أرضها ظلَّ مشوبًا بخيبة أمل من إحجامها عن إقامة منطقة عازلة آمنة على الحدود لحماية المزيد من اللاجئين. هكذا تبدو تركيا الآن أمام الاختبار الأكثر صعوبة منذ أن بدأت رحلة صعودها في الشرق الأوسط وأقامت علاقات وثيقة مع نظام الأسد وأصبحت سوريا هي ركيزة مشروعها الإقليمي إلى حد أن أوغلو زارها أكثر مما زار عواصم دول المنطقة الأخرى مجتمعة خلال الفترة التي تولى فيها وزارة الخارجية فلم يعد الاعتماد على المناورة بين نظام الأسد ومعارضيه كافيًا لاجتياز هذا الاختبار الصعب. فقد أصبح الهجوم على موقف تركيا متكررًا في مظاهرات سوريَّة ترفع فيها لافتات تتهمها بالتواطؤ، كما أن تململا بدأ يظهر في رد الفعل الرسمي على النصائح التركيَّة، ويعني ذلك أن أمام تركيا طريقين كل منهما أكثر وعورة من الآخر، أولهما أن تواصل مناوراتها بين النظام ومعارضيه مخاطرة بتراجع العلاقات مع سوريا سواء بقي هذا النظام أو تغيَّر، وحتى إذا عذر نظام الأسد تركيا لعدم وقوفها وراءه لن تبقى سوريا كما كانت لاعبًا رئيسيًّا في المنطقة إذا تمكن هذا النظام من الاستمرار لأنه سيخرج من الأزمة ضعيفًا وربما محاصرًا أيضًا بدرجة أو بأخرى حتى في حالة إجرائه إصلاحات محدودة. أما في حالة حدوث تغيير في سوريا فالأرجح أن وجود أصدقاء لتركيا في أوساط الإسلاميين لن يكون كافيًا لكي يحافظ النظام الجديد على العلاقات غير العادية التي تنامت مع أنقرة في السنوات الأخيرة. أما الخيار الثاني وهو انحياز تركيا إلى المحتجين في سوريا بشكل حاسم، فهو لا يقل مخاطرة، بل ربما ينطوي على مغامرة إذا بقي النظام مع شيء من التغيير في إطاره، كما أن دعم الاحتجاجات والمطالبة بتنحي الرئيس بشار الأسد لا يضمن بشكل قاطع مصالح تركيا لأنَّ تغيير النظام قد يجعل سوريا في حال عدم استقرار لفترة غير معلومة وربما يفتح الباب أمام أخطار تهدِّد هذه المصالح. فيا لهمن اختبار عسير يواجه أردوغان الذي ظهر في القاهرة قويًّا واثقًا وزعيما بالرغم من كل شيء. المصدر: الإسلام اليوم