بدخول المقاتلين الليبين طرابلس العاصمة يسدل الستار على ثالث ثورات الربيع العربى من حيث النجاح والتمكن من إزاحة واحد من أعتى الديكتاتوريات الحاكمة فى العالم العربى بله فى العالم بأسره إذ ظل القذافى جاثماً على صدر الشعب الليبى ما يقرب من اثنين وأربعين عاماً . كما يمثل دخول طرابلس والاستيلاء عليها نهاية ستة أشهر عصيبة عاشتها ليبيا تحت قصف المدافع وعمليات الكر والفر بين قوات الثوار من ناحية وكتائب القذافى من ناحية أخرى . كما أنه يجدد الأمل فى نفوس الشعوب الثائرة فى اليمن وسوريا . وإذا ما تجاوزنا أوقات الفرح والتى قد تطول بعض الشىء فى شتى أرجاء ليبيا تناسباً مع الحدث الأبرز فى حياة الليبين فإنه من الواجب علينا أن نقرر أن ما مر من مراحل الثورة الليبية يعبر الأسهل بعض الشىء إزاءما هو قادم من تحديات جسام يجب على الليبين أن ينتبهوا إليها وإلا جرتهم إلى وضع مأساوى قد يشبه إلى حد كبير حالة الوضع الصومالى من حيث انهيار الدولة وتفكك مؤسساتها وانعدام الأمن بسبب القتال المتجدد بين الفرقاء المتشاكسين . ولعل أبرز هذه التحديات تكمن فى الآتى : أولاً : دمج قوات الثوار الليبيين فى جيش موحد نظامى ، فمن المعلوم أن قوات الثوار الليبيين قد تشكلت عقب ثورة 17 فبراير والتى شهدت انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان وصلت إلى حد استخدام الإبادة الجماعية من قبل كتائب القذافى ، وقد تشكلت هذه القوات عقب نجاح الثوار فى شرق ليبيا( بنغازى وما حولها ) فى طرد قوى الأمن منها وحصلوهم على مخازن ضخمة مَملوءة بالسلاح كانت قد أعدت للتزويد بالدعم العسكري خلال فترة توتر العلاقات الليبية الغربية التي شهدت بعض المناوشات الحربية، وعندما رأى الثوار قطع الأسلحة هذه بين أيديهم فكروا فى الزحف بها نحو طرابلس العاصمة التى كانت تشهد آنذاك قمعاً وحشياً من نظام القذافى . ثم انتظمت هذه القوات تحت رئاسة اللواء عبد الفتاح يونس العبيدى الذى انشق على القذافى قبل أن يقتل فى وقت سابق . كما أن هذه القوات لا تمثل بقعة جغرافية واحدة ، فالثورة الليبية تختص بأنها ثورة " البلدان والنواحى " فهناك ثورة فى الشرق انطلقت من " بنغازى " كما أنه توجد ثورة الغرب والتى انطلقت من منطقة" جبل نفوسة " وهناك ثورة " طرابلس العاصمة " التى تعرضت لقمع شديد .. وكل منطقة من هذه المناطق استطاعت تكوين " قوات " خاصة بها تمكنت من التنسيق فيما بينها للتخلص من القذافى ولكن يبقى التحدى الأعظم فى دمج كل هذه القوات فى جيش نظامى موحد خاصة فى ظل وضع قبلى شديد التجذر وبلد لا يوجد فيه جيش نظامى بعد أن فكك القذافى بنيته الأساسية لصالح كتائبه الأمنية استسلاماً لهواجسه ومخاوفه من انقلاب الجيش عليه ، مما يجعلنا أمام وضع مخيف لبلد متسع الأرجاء عظيم الثروات لا يملك الحد الأدنى من مقومات الدولة الحديثة ويتحرك المتطوعون بسلاحهم بكل حرية مما ينذر بكارثة عند أول اختلاف بين شركاء الثورة . فالتجربة الأفغانية مازلت شاخصة للعيان خاصة فى شقها الذى تلى خروج القوات السوفيتية وسقوط نظام نجيب الله ولكن البلاد دخلت فى أتون حرب بينية مدمرة أتت على منجزات الجهاد الأفغانى آنذاك وهوما يجب الانتباه إليه جيداً فى الحالة الليبية . أضف إلى ذلك إلى أن انتشار السلاح فى أيدى متطوعين غير نظاميين قد يغرى " البعض " منهم فى الدخول فى حرب انتقامية ضد المتعاونين والمحسوبين على نظام القذافى وهو الأمر الذى حذر منه مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالى الوطنى فى حديث له مع قناة الجزيرة عقب إلقاء القبض على محمد النجل الأكبر للقذافى حيث قال : " انه لا يقبل أي فعل انتقامي من الثوار تجاه رموز النظام السابق خاصة محمد القذافي الذي أعطاه المجلس الأمان علي حياته وحياة من معه. وأوضح أن الدولة ستوفر محاكمات حضارية تتوافر فيها كل ضمانات العدالة القانونية لمحاسبة كل من ارتكب جرما، وان الجميع في ليبيا سيخضع للمساءلة والمحاسبة حتي هو والمجلس الانتقالي باعتباره كان مسئولا عن فترة معينة من حكم البلاد. وأشار إلي أن هناك جماعات بين الثوار تريد الانتقام والثأر وإحداث القلاقل بين المجلس الوطني الانتقالي. وحذر عبد الجليل الثوار من الانتقام والثأر كما هدد بالاستقالة فور سقوط النظام إذا سادت عقلية الانتقام والثأر وخانوا الأمان أو إذا لم يسلموا أسلحتهم بعد سقوط النظام ويعودوا إلي أماكنهم الطبيعية " ثانياً : التوافق على بناء الدولة الليبية الحديثة ، فمن المعروف أن القذافى قد فكك البنية الأساسية للدولة الليبية لصالح اللجان الشعبية التى جاء بها على حساب الوزرات المعروفة والمعهودة ، كما أنه أخضع ليبيا طيلة ما يقرب من أربعة عقود لشطحاته التى ضمنها ما يعرف ب " الكتاب الأخضر " فمن هنا فإن الحاجة تبدو ماسة للإسراع بتأسيس الدولة الليبية الحديثة وبناء الجيش الليبى والأجهزة الأمنية ، إذ يظل أى جهد فى اتجاه آخر كمن يحاول استنبات البذور فى الهواء أو الرقم على صفحة الماء ، مع ضرورة الإسراع بدمج جميع المجالس والهيئات التى تشكلت فى فترة الثورة فى مجلس موحد يتولى قيادة البلاد خلال المرحلة الانتقالية كيلا تتعدد مراكز القوة فى هذه المرحلة الحرجة . ثالثاً : تحديد قائمة الأولويات بكل دقة ومهارة اختصاراً للوقت واجتيازاً لمراحل قد تعوق مرحلة البناء الجديد للدولة الليبية الحديثة ، وهذا التحديد سيقى البلاد شر الدخول فى مرحلة الاستقطاب السياسى الحاد بين المذاهب الفكرية المتنوعة خاصة وأن قوات الثوار الليبيين تتوزع فيها الانتماءات الفكرية والمذهبية الإسلامية والليبرالية .. وغيرهما مع ميل نسبى واضح فى ميزان القوة لصالح الإسلاميين ، ومن هنا فإن حالة الاستقطاب السياسى قد تجر البلاد إلى حالة من المواجهات الدامية بين رفقاء الثورة .. والحالة المصرية خير دليل على الآثار السيئة التى تركتها حالة الاستقطاب السياسى بين الإسلاميين والعلمانيين على مجمل مرحلة التحول الديمقراطى ، والحالة المصرية لم تتعد التراشق اللفظى العنيف وتسيير المسيرات ، ولكننا فى الحالة الليبية أمام شعب مسلح بكل أنواع السلاح والمرشح للاستخدام عند أول بادرة خلاف سياسى . لذا يجب أن تدرك ألوان الطيف السياسى الليبى أن عليهم أن يؤجلوا مرحلة الصراع السياسى إلى ما بعد رسم الإطار العام للدولة الليبية ورسم المحددات التى ستشكل طبيعة النظام السياسى فى المرحلة القادمة والتوافق على الأسئلة الهامة والملحة المرتبطة بالدستور والبرلمان ومدة الفترة الانتقالية وحرية تشكيل الأحزاب ... إلخ إضافة إلى تأسيس جيش موحد يجمع هذه الأشتات الثائرة وينتظمها فى قيادة موحدة . هذه الأولويات يجب أن تتوافق عليها العشائر والقبائل والقوى السياسية قبل دخول معمعة الصراع السياسى بحلوها ومرها . رابعاً : التخلص من استحقاقات " الناتو " وعدم السماح بوقوع ليبيا فريسة لأطماعه التى لا تخفى على أحد ، فحلف " الناتو " لم يتحرك لإنقاذ الشعب الليبى استجابة لدواع إنسانية بحتة ، فالناتو ليس فرعاً من الصليب الأحمر أو هيئات الإغاثة الدولية ، ولكنه تحرك بناء على رغبة أعضائه وفى مقدمتهم أمريكا فى الاستيلاء على " بترول " ليبيا " فنظام القذافى كان فى مجمله حملاً وديعاً خانعاً للغرب ولأمريكا وقد أدرك بعد فترة أن مغامراته الفاشلة ضد المصالح الغربية والأمريكية لن يعود عليه إلا بالخراب خاصة بعد الدرس القاسى الذى تلقاه فى قضية " لوكيربى " .. فتحرك أمريكا وحلفاؤها للتخلص من القذافى يأتى طمعاً فى بترول ليبيا وهو الأمر الذى يجب ألا يسمح به المجلس الانتقالى أو أى حكومة منتخبة أخرى . لهذا كله .. يجب على الليبيين ألا تستغرقهم أفراحهم عن الالتفاف إلى حجم التحديات والمخاطر التى تواجهم فى المرحلة القادمة والتى قد تتجاوز فى صعوبتها مرحلة القتال السابقة . المصدر: الاسلام اليوم