ماذا يعرف الجُهَّال عن تاريخ المسلمين وأفكاهم منذ ألف سنة ..؟! - فى هذا التاريخ على وجه التحديد كانت الأندلس الأوربية تتمتع بثمار الفكر الإسلامي و تشهد أعظم حضارة إنسانية على وجه الأرض ، لقد استدعى أهل البلاد بأنفسهم المسلمين - على سمعتهم فى العدل والمساواة بين الناس- لتخليصهم من العبودية الرومانية والظلم. فأقام المسلمون بالأندلس حضارة ساهم فيها اليهود والمسيحيون على السواء ؛ فى دولة لم تفرق بين الأجناس ولا الأديان ؛ عاشوا جميعًا أحرارًا متعاونين بينما كانت أوربا تغوص فى ظلمات الجهل والتخلف والظلام والقذارة ؛ كان قتل المخالفين فى العقيدة دائرًا على قدم وساق بين المسيحيين بعضهم ضد بعض: الكاثوليك والبروتسطانت والأرثوذكس.. وكانت محاكم التفتيش تقتل وتعذب وتحرق المخالفين معها لا فى العقيدة الدينية فحسب ولكن فى اصطناع العلوم الطبيعية والفكر الذى لا تُقِرُّهُ الكنيسة ؛ حتى الأطباء كانوا يُحاكمون على استخدامهم العلوم العربية فى العلاج والتشريح والجراحة ، ولم يسلم من التعذيب والقتل علماء الفلك الذين قالوا بكرويّة الأرض .. ازدهرت الأندلس تحت الحكم الإسلامي بالعلم والتعليم والأدب والفن والعمارة ، وخلّف المسلمون شواهد من الآثار تنطق بالجمال والروعة من مساجد وقصور، فى المدن الأندلسية . التى ازدانت بالمبانى والحمامات .. وما حفلت به من مدارس وجامعات ومكتبات ؛ حيث أصبحت مدن الأندلس منارة للعلم والحضارة .. وكانت قرطبة تُضاء ليلًا بالمصابيح لمسافة 16 كيلو مترا.. وقد انتشرت فى مدن الأندلس كلها الحدائق والمياه الجارية والنافورات والزهور فكانت قبلة للناظرين.
وقد بلغت الرسالة الجاهلة إلى مستقبليها ،حيث كتبت صحيفة أل Foreign Policy و تحدثت قناة البى بى سى البريطانة عن مظاهرات ألفيّة فى مدن ألمانيا مثل كولن وبرلين ودرسدن ، يهتفون ويحملون شعارات ضد المهاجرين المسلمين ، بل ضد وجود المسلمين فى أوربا .. وهي دعوة سافرة للتخلص منهم بالطرد والاضطهاد والقتل..
مصدر الإرهاب والقتل الجماعي فى أوربا والعالم ليس هم المسلمون فى أي عصر وإنما الأوربيون والأمريكيون على وجه التحديد .. و ضحايا جرائمهم بالملايين هم المسلمون والعرب ، والأدلة على هذا مسجلة فى وثائق رسمية وفى مشاهد متلفزة رآها العالم فى فلسطين وأفغانستان والعراق والبوسنة والهرسك وكوسوفَا والشيشان والفلبين وفى أفريقيا الوسطى والصومال وتركستان ونيبال .. وقديما أباد المستعمرون الأوربيون الملايين من السكان الأصليين فى الأمريكتين وفى أستراليا وكندا ونيوزيلانده ، وحوَّلوا من بقي منهم إلى عينات فى متاحف بشرية ليتفرج الناس عليهم . ولم يفعل المسلمون هذا مع البشر فى أي عصر ولا فى أي مكان بالعالم .. ففيم هذا العداء والكراهية العمياء للمسلمين وثقافة المسلمين وتاريخ الإسلام الذى لطّخ الغرب وجهه بالسخام وسار على نهجه العملاء فى بلاد المسلمين ..؟!
هذا السؤال يجيب عليه بالتحليل المنطقي والواقع التاريخي المفكر الإسلامي محمد أسد: كان يهوديا عاش ونشأ وتعلم فى قلب أوربا وكانت أسرته تهيئه ليكون كاهنا فى معبد يهودي ؛ فدرس التوراة والتلمود فى لغاتها الأصلية العبرية والآرامية، ولكنه لم يقتنع لا باليهودية ولا بالمسيحية .. والتحق بالصحافة كمراسل بالشرق الأوسط ، للكتابة عن أحداثه ، وليكتشف أكاذيب الغرب عن حقائق الإسلام ؛ فى رحلة بحث طويلة حتى اهتدى إلى الإسلام واطمأن إليه .. وكرّس بقية حياته لخدمته والدفاع عنه عبر ستة وستين عاما كاملة، قضى منها 17 عاما لينجز ترجمة رائعة لمعانى القرآن الكريم باللغة الإنجليزية .. فى جذور العداء الغربي الكامن فى الأعماق للإسلام يسوق إلينا محمد أسد هذه القصة: فقد كان يحاور مؤرخًا أمريكيًّا مرموقًا حول هذا الموضوع فقال له: "لا بد أن ننظر إلي الوراء ونحاول أن نفهم الخلفية النفسية للعلاقات المبكرة بين الغرب والعالم الإسلامي .. فما يعتقده الغرب ويشعر به تجاه الإسلام اليوم بذوره متجذرة في انطباعات تم بذْرها خلال الحروب الصليبية" ..
"هنا صاح صديقي معترضًا : "تقول الحروب الصليبية" ! أنا لا أظنك تقصد أن ما حدث منذ ألف سنة تقريبا لا يزال يؤثر في الناس .. وفي هذا القرن العشرين !!.. ورد محمد أسد بلهجة تأكيدية وبلا مواربة : ولكنه رغم كل شيء لا يزال يؤثر ... فقط تذكر أن نظرية التحليل النفسي التي تؤمن بها أنت تنسب كثيرًا من الانفعالات والاتجاهات العاطفية للإنسان البالغ إلي خبرات سابقة حدثت له في سنوات الطفولة المبكرة وأنها انطمرت في اللاشعور .. ومن ثم أصبح تأثيرها علي سلوكه ومشاعره أكبر وأخطر، وإن كان لا يدري حقيقة هذه المشاعر ومصدرها اللاشعوري ؟".. ثم أليست الشعوب والحضارات في نهاية الأمر إنما هي مجموعات من الأفراد ؟ وأن نمو هذه الشعوب مرتبط بخبرات الطفولة الأولية .. وأن قوة تأثيرها عليهم يعتمد فقط علي شدة وقعها الأصلي علي مشاعرهم .. ولا شك أن القرن الذي تلا الحروب الصليبية ، والذي انتهي بانتهاء الألفية الأولي للميلاد يمكن اعتباره طفولة الحضارة الغربية القائمة . ويمضي محمد أسد يشرح باقتدار لمحاوره ؛ فيذكِّره بما حدث من تطورات فكرية وسياسية في أوربّا قبل الحروب الصليبية وبعدها .. يقول : غرقت أوربّا في عصور من الظلام تلت انقسام الإمبراطورية الرومانية إلي إمبراطوريتين : شرقية وغربية ، ثم جاء عصر الحروب الصليبية .. ولأول مرة بدأت أوربا تنظر في ثقافتها الخاصة بعيدًا عن التراث الروماني ، ومن ثم ظهرت الآداب الجديدة باللغات المحلية ملهمة بالخبرة الدينية المنبثقة من المسيحية الغربية .. وظهرت الفنون الجميلة تدريجياً متأثرة بالهجرات المصحوبة بحروب القوط والهون والأفار .. مفارقةً للظروف البدائية التي سادت في العصور المظلمة .. وهكذا انبثق عالم ثقافي جديد في أوروبا .. كانت أوروبا في حالة انبثاق وولادة لحياة جديدة عندما صُدمت بالحروب الصليبية .. ومن ثم كانت هذه الحروب لطمة – شعر بها الجميع – في وجه حضارة بدأت تستيقظ وتشعر بذاتها .. كانت هذه أول محاولة لأوروبا تنظر فيها إلي نفسها باعتبارها كياناً ذا وحدة ثقافية .. لم تشعر أوروبا من قبل ولا من بعد بذلك الحماس الملتهب الذي أحدثته صدمة الحروب الصليبية الأولي مما لا يمكن مقارنته بأي حدث آخر في مجري تاريخها .. شعور كاسح تخطي كل الحدود والسدود والانتماءات القبلية والطبقية والعرقية .. وهكذا هيمن علي الصورة العامة الرباط الديني فبرزت فكرة العالم المسيحي وانبعثت فكرة أوروبا الواحدة في هذا الإطار .. يثير محمد أسد نقطة هامة عندما يقول : في اللحظة التي أهاب فيها البابا" أوربان الثاني "بجميع المسيحيين إعلان الحرب علي الجنس الشرير الذين يحتلون الأرض المقدسة (يقصد المسلمين) فقد أنشأ – ربما بلا وعْيٍ منه – ميثاق الحضارة الغربية الحديثة ".. ثم يمضي محمد أسد في تحليلاته الدقيقة فيقول : "أعطت الحروب الصليبية أوروبا وعيها الثقافي ووحدتها ، ولكن الخبرة التي صاحبت هذه الصدمة كان مقدَّرًا لها أن تصبغ الإسلام بلون زائف، لتُقَدِّمَهُ شائهًا كريها في العيون الغربية .. ولم يكن هذا بسبب الصدام المسلح وسفك الدماء ؛ فما أكثر ما نشبت الحروب بين الأمم وسالت فيها دماء غزيرة ثم طواها النسيان !.. واندثرت عداوات لتحل محلها صداقات . ولكن الذي وقع في الحروب الصليبية لم يكن مجرد صدام مسلح .. وإنما كان أولا وبالدرجة الأولى سهاما مصوبة الى العقل الغربى لتشويه الإسلام، فلكي يستمر الحث علي العداء والحرب كان لابد من وصم نبي المسلمين بأنه المسيح الدجال (عدوالمسيح) الذي تصفه الأناجيل .. ووصم دينه بأبشع الصفات وأشنع العبارات ، وأن الإسلام هو مصدر الفجور والضلالات .. إنه دين الشهوات الحسية الحيوانية والعنف الغاشم .. وإنه مجموعة من الشعائر الظاهرية لاعلاقة لها بالتصفية الروحية .. كل هذا دخل العقل الغربي واستقر فيه جيلًا بعد جيل .. يقول محمد أسد : هكذا ظهر النبي محمد الذي أكد علي أتباعه ضرورة احترام الرسل والديانات الأخري، وحذرهم أن الذي لا يؤمن بالرسل الآخرين فإيمانه منقوص .. محمد هذا هو الذي تحول اسمه عند الأوروبيين إلي "ماهوند" (وهو اسم مشتق من كلمة قذرة لا أخوض فى معناها .. ولكن من أراد أن يتحرّى فليبحث في القاموس عن معنى كلمة (Hound) ... يقول محمد أسد : كان مناخ الحروب الصليبية فرصة سانحة لقوي شريرة استطاعت أن تبذر البذور السوداء لكراهية دين وحضارة بلغت في سموها الأخلاقي والإنساني قمة لم تبلغها حضارة أخري سابقة أو لاحقة .. وفي هذه الأجواء المعادية للإسلام ظهرت القصيدة المشهورة باسم (شانسو دي رولاند) تمَّ تأليفها بعد الحرب الصليبية بثلاثة قرون.. ومع ذلك عبَّرت عن كراهية ملتهبة للإسلام والمسلمين .. كانت القصيدة تصف أسطورة النصر الذي أحرزه العالم المسيحي علي الكفار المسلمين في جنوبفرنسا .. ولكنها أصبحت فيما بعد النشيد القومي لأوروبّا الموحّدة .. ويتجلي التناقض هنا في أن النفور الغربي من الإسلام كان دينيًّا في أصوله وعبر أجيال طويلة.. إلا أنه لا يزال مستمرًّا بإصرار في اللاشعور الجمعي ، في زمن فقد فيه الدين وَهَجَهُ وسيطرته علي خيال الإنسان الأوروبي .. وليس هذا مستغربًا فنحن نعرف أن الإنسان قد يفقد معتقداته الدينية التي تشرّبها في طفولته ، ولكنه لا يفتأ يعبر طول حياته اللاحقة عن التصاقه ببعضها بلا مبرر عقلى يسوّغها.. وهذا بالضبط ما حدث للشخصية الجمعية للحضارة الغربية، فشبح الحروب الصليبية وما صاحبه من تشويه للإسلام مازال يحوّم فى سماء الغرب ، وكل ردود الأفعال الغربية تجاه الإسلام والمسلمين مازالت تحمل آثارًا واضحة الدلالة لهذا الشبح الذي قضي نحبه" ..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.