كنت صبية تمر السنوات و أنا أتجاهلها ، أتمايل في ريعان الشباب لأنني أستند إلي الجذع الذي يحملني ، و أرتوي من نبع الحنان الجاري الذي أغترف منه كلما شئت ، فقد كانت أمي هناك دائما ، بوجهها الجميل وابتسامتها الدائمة وطيبتها الذكية ، كلما دخلت عليها وجدتها مع مصحفها تتلوه أو تسمعه ، أو تدون ملحوظاتها في كشكول عن معني آية سمعتها من الشيخ الشعراوي وأحبت أن تثبتها بالكتابة . دائما معك كشكول وقلم يا أمي ، لم تنسي أنك كنت معلمة وأنك أثرت في تلاميذك تربويا وعلميا ، ولكنني كبرت فجأة وأحسست بسنوات عمري مضاعفة عندما فقدت أمي ، صرت غصنا وحيدا في مهب الريح ، رحمك الله يا من ربيت من البنات ستة وكنت فخورة بهن وسعيدة ، لأنك أحسنت التربية وكان أخي الوحيد يحتل مكانا مميزا في نفسك ، عشت زاهدة متوكلة رائدة في مجالك ، محبة للجميع يتسع قلبك وصدرك للعالم أجمع ، كنت أول فتاة تتعلم وتصبح معلمة في قريتك القابعة في أحضان دلتا النيل ، ولم تكتفي بالتعليم بل غرست فينا جميعا حب القراءة والبحث عن المعرفة بعقلية نقدية لا تسير وراء السائد بل تبتكر الجديد . لبيت نداء ربك في ثالث أيام شهر رمضان في أيام الرحمة ، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبلك في عباده الصالحين ويرحمك وأن يجعل مثواك الجنة ، كنت أجلس في بيت أبيك في القرية التي كنت دائمة الاعتزاز بها وكنت أتلقي العزاء فيك ، وأنا أحتضن خالتي نظرت بعمق في عينيها فوجدت شيئا منك بها ، وتكرر الأمر مع خالتي الأخري وبناتها ، هناك لمحة من روحك فيهن ، أخيرا تركت صخب المدينة وعدت لمنازلك الأولي كما كنت تتوقين في السنوات الأخيرة . الحق معك هنا في حضن الأهل أمان وسكينة وبساطة وتراحم ومودة حقيقية ، أية مشاغل تلك التي كنت أتذرع بها وتمنعني عنهم ؟ قامت العائلة بكل الواجب الذي لا نعرف عنه في المدينة إلا القليل ، إنهم يعيشون في مدرسة الحياة ويتعلمون خبرة جديدة في كل يوم تؤهلهم للحصول علي وسام الحياة من الطبقة الأولي ،بينما تجف أرواحنا في المدينة لنحصل علي شهادة في جزئية صغيرة جدا ، قبل أن أودعهن عائدة لساقية المدينة التي تدور بنا بلا رحمة ، وجدت شذرات من روحي في عيونهن ، شعرت أن للغصن جذورا عديدة تثبته وتحتويه . إذا أردت أن تعرف نفسك وتثبت جذورك في أرض صلبة وتفهم بوصلة حياتك ومن أين أتيت و إلي أين تذهب ، صل رحمك ، إذا أردت أن تهيئ مناخا صالحا لتربية أبناءك ، صل رحمك ،إذا أردت أن تري نفسك حلقة في سلسلة تبدأ من الراحلين وتنتهي بأصغر طفل يحبو بين قدميك ، صل رحمك ، إذا أردت أن تري روحك ترفرف بين جنبات نفوس طيبة تحبك انظر بعمق في عيون أحبابك . [email protected]