من أهم ما يميز المشروع الإصلاحي الإسلامي عن سائر الدعوات والمشاريع الإصلاحية الأخري في مصر أن عناصر ذلك المشروع مستمدة بشكل مباشر من الشريعة الإسلامية ، وهذا التميز يجعل المشروع الإسلامي ورسالته الإصلاحية يتمتعان باستدامة مصدرها تمسك المجتمع بالشريعة ورغبة الجماهير في القيام بأعبائها ، علي النقيض من باقي المشاريع التي تستقي عناصرها الإصلاحية من عدد من المناهج الفكرية الغربية التي لا تتمتع بدعم شعبي جارف أو تعاطف جماهيري مع أهدافها ومبادئها ، والشريعة الإسلامية تعني بمصالح المجتمعات الخاضعة لها من خلال ما يسمي بفروض الكفايات ، وفرض الكفاية هو الواجب الشرعي الذي يلزم المجتمع المسلم القيام به ويأثم المجتمع كله في حالة ترك ذلك الفرض بالكلية ، وفي هذا المقال أحاول أن أضع تصوراً لأهم فروض الكفايات التي يجب علي القائمين علي المشروع الإصلاحي الإسلامي في مصر أن يعنوا بها وأن يضعوا الخطط والبرامج للقيام بحقها بما يؤدي لتحقيق الإصلاح المنشود الذي يرومه الشعب المصري بمختلف طوائفه. ما أتحدث عنه في هذا المقال هو واجب إصلاح التعليم في مصر ، والذي يفترض أن يقع عبئ القيام به علي أصحاب المشروع الإصلاحي الإسلامي قبل غيرهم من أصحاب المناهج المخالفة للشريعة الإسلامية ، وذلك للحضور الكبير الذي تتمتع به التيارات الإسلامية في مصر وللقوة الشعبية الهائلة للمشروع الإسلامي والتي تجلت بوضوح في قدرة أصحاب هذا المشروع علي حشد الشعب لمساندة توجهاتهم السياسية الداعمة لتطبيق الشريعة الإسلامية في الفترة الأخيرة. لا يكاد يختلف اثنان أن حال منظومات التعليم المختلفة في مصر يدعو للرثاء والأسف ، فنظام التعليم المتوسط والثانوي مصاب بحالة من الفصام الحاد تعزله تماماً عن نظريات التعليم الحديثة بما يخفض فعالية ذلك النظام لما يقارب الصفر ، فالحاصل علي شهادة الثانوية العامة لا يكاد يعرف المعلومات الأساسية عن العالم الحديث المحيط به كما يعرفها من حصل علي شهادة التعليم الابتدائي في غير مصر من الدول ، كما أن ارتباط التفوق في المرحلة الثانوية – بشكل غير مبرر- بتحديد الطبقة الاجتماعية للانسان المصري يدفعه دفعاً للمزيد من الإلحاح المزري علي هذا النظام التعليمي الفاسد ليضمن الحصول علي مقعد في الجامعة (أي كلية وأي تخصص) حتي يلحق بركب طبقة (الجامعيين) التي عمل الإعلام والأنظمة السياسية السابقة في مصر علي تفضيلها اجتماعياً وطبقياً ، بالإضافة إلي ذلك فإن نظام التعليم المهني قد وصل إلي مرحلة مميتة من التخلف ووالتدهور جعلت مصر غير قادرة علي إعداد أجيال من الحرفيين والمهنيين للقيام بحمل أعباء النهضة الصناعية التي يفترض بنا السير في طريقها في المستقبل القريب ، أما التعليم الجامعي ، فحدث ولا حرج... إن نظام مجانية التعليم الجامعي الذي يعتبره الكثيرون أحد مكاسب انقلاب الجيش في عام 1952 قد أضاف عبئاً هائلاً علي كاهل أي نظام سياسي يحكم مصر منذ ذلك الحين ، وهذا العبئ يتلخص في إنشاء جامعات (حكومية مجانية) قادرة علي استيعاب كل الشعب المصري ، ثم توفير فرص عمل (تليق) بخريجي تلك الجامعات من حيث المقابل المادي والمكانة الاجتماعية ، وهذا بالتأكيد من رابع المستحيلات إن لم يكن أولها إن أعدنا ترتيبها في هذه الأيام المضطربة. وفي واقع الأمر فإن ما حدث بسبب هذا (المكسب العظيم) هو أن الحكومات المتعاقبة منذ عهد عبد الناصر إلي مبارك قد عملت علي مواجهة ذلك العبئ المستحيل من خلال تقليل أعداد المقبولين في الكليات (الهامة) عن طريق رفع مستوي القبول بها ، وإنشاء وتوسيع جامعات و كليات ومعاهد (هيكلية) ليست لها أي عائد ولا قيمة مضافة علي الاقتصاد والصناعة في مصر ، حتي تقوم تلك الكليات والمعاهد (الزائفة) بإرضاء الشعب من خلال ضم أبنائه إلي طبقة (الجامعيين) المرموقة اجتماعياً مع عدم تكليف الدولة المزيد من الأعباء المالية لتمويل مختبرات وفصول دراسية وقاعات محاضرات متطورة كتلك التي تتطلبها الكليات (الهامة) والتي أطلق عليها كليات (القمة) في مراحل لاحقة ، ومن المناسب في هذا السياق عرض بعض الأرقام لعقد مقارنة سريعة توضح الكارثة التعليمية التي تعيشها مصر الآن. بحسب احصائيات الهيئة العامة للإستعلامات فإن الحاصلين علي مؤهلات جامعية (تشمل الدراسات العليا) في مصر يبلغون ما يقرب من 10% من التعداد الكلي للسكان [1] ، وهذه النسبة تساوي تقريباً ضعف النسبة الخاصة بماليزيا وجنوب أفريقيا [2] ، ومع ذلك فإن ماليزيا التي بلغ تعداد سكانها ربع سكان مصر ومساحتها ثلث مساحة مصر تقريباً يبلغ الدخل القومي لكل فرد فيها حوالي 8432 دولار سنوياً بينما يبلغ الدخل القومي للفرد المصري 2789 دولار سنوياً [3] ! وكذلك الحال مع جنوب أفريقيا التي بلغ عدد سكانها ثلثي عدد سكان مصر وتزيد مساحتها بنسبة 20% فقط علي مساحة مصر ، فإن الفرد في جنوب أفريقيا يساهم في الدخل القومي بمقدار 5789 دولار سنوياً ، أي ما يساوي ضعف نصيب الفرد المصري تقريباً [3] ! ومن هذه المقارنة السريعة بين مصر من جهة وماليزيا وجنوب أفريقيا من جهة أخري يتضح أن النسبة المرتفعة للجامعيين في مصر لم يكن لها أي دور في رفع الدخل القومي للفرد ، والذي لايزال متدني عند مقارنته بدول تنخفض نسبة الجامعيين بها إلي نصف النسبة المصرية ، وبهذا يمكن القول أن سياسية مجانية التعليم الجامعي التي أسسها الجيش عندما تولي حكم مصر في 1952 لم يكن لها أي دور في رفع المستوي المعيشي للمصريين علي مدي أكثر من نصف قرن. وبالتالي فيحتاج القائمون علي المشروع الإصلاحي الإسلامي في مصر لإدراك هذه الحقيقة ، ألا وهي أن إعادة هيكلة منظومات التعليم – بعيداً عن المؤسسة الرسمية الحكومية – هو من أهم فروض الكفايات التي ستمكن أصحاب هذا المشروع من إقامة الدولة الإسلامية الحديثة في مصر ، وينبغي أن تكون إعادة هيكلة تلك المنظومات بعيداً عن النظام السياسي القادم حتي يكون التغيير والتطوير بعيدين عن النظم الإدارية العقيمة الفاسدة التي تركها لنا النظام السابق والتي تحتاج لسنوات عديدة لإصلاحها فضلاً عن إخضاع المشاريع الإصلاحية لسلطتها وإدارتها. إن استلهام الأسلوب الغربي في إنشاء وإدارة الجامعات الأهلية الحديثة ، واستلهام النموذج الإسلامي التاريخي في إنشاء وإدارة الأربطة والكتاتيب المختصة بالتعليم الأساسي ، واستلهام النموذج التركي العثماني في انشاء الورش والمعاهد المهنية والحرفية هي السبل الوحيدة التي يستطيع من خلالها أصحاب المشروع الإسلامي في مصر القيام بفرض الكفاية تجاه إصلاح نظم التعليم المهترئة والمحتضرة في المستقبل القريب ، واستلهام تلك النماذج يمكن أن يكون علي الوجه التالي: 1- إصلاح النظام الجامعي يجب أن يقوم القائمين علي المشروع الاسلامي المصري – باختلاف تياراتهم – بالتوافق حيال إنشاء جامعات أهلية مستقلة ، تقوم جماهير المصريين بالاكتتاب علي تأسيسها ، ويقوم المتخصصون من كل المجالات بإدارتها وتطويرها ، ويمكن في هذا الصدد الاستعانة بخبراء التعليم من الدول التي حققت نهضة علمية وجامعية كبيرة خلال السنين الأخيرة مثل تركيا وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية ، بحيث تنقل النظم الإدارية والتعليمية الموجودة في تلك الدول ، مع التخطيط لإعادة بناء عناصر الثقافة الإسلامية المصرية المفقودة من خلال تلك الجامعات ، بحيث تصبح تلك الجامعات منارات لنشر العلوم الحديثة المصبوغة بصبغة ثقافية إسلامية أصيلة تحمل في طياتها التراث المصري الإسلامي متجسداً في أربعة عشر قرناً من الزمان ، كما يجب أن تحرص تلك الجامعات علي أن يكون تدريس كل العلوم الحديثة باللغة الإنجليزية ، مع إطلاق مشاريع جادة لتعريب العلوم والترجمة بالتوازي مع نشر تلك العلوم التي أصبحت الحضارة الإنسانية المعاصرة يدور في أفلاكها عملياً وعلمياً ، ويمكن البدئ من خلال إنشاء جامعة نموذجية واحدة تستمر لعدة سنوات ثم بعد ذلك يعمد أصحاب المشروع الإسلامي علي استنساخها في المحافظات المصرية المختلفة. 2-إصلاح نظام التعليم الأساسي إن أهداف التعليم الأساسي كما يراها الإسلام هي بناء وتثبيت الهوية الثقافية والحضارية الإسلامية عند المسلمين ، ويتجسد ذلك في الحث علي تعليم القرآن الكريم للأطفال في سن مبكرة ، وقد كانت الأربطة (جمع رباط) والكتاتيب تقوم بمثل هذه الوظائف في البلاد الإسلامية قديماً ، وبقليل من التخطيط والتفكير يمكن الخروج بنموذج عصري حديث للرباط أو الكتّاب ، يدرس فيه الطفل العلوم الحديثة اللازمة في هذه المرحلة المتقدمة من السن بالإضافة إلي تعليمه القرآن الكريم وطرفاً من علومه كالتجويد مثلاً ، وشيئاً يسيراً من الحديث النبوي الشريف مثل الأربعين النووية ، بالإضافة إلي تعليمه فقه العبادات والمعاملات اللازمة في تلك المرحلة السنية المتقدمة ، ويمكن للتيارات الإسلامية المختلفة بالتعاون مع الأزهر إنشاء عدد من المدارس الأزهرية الأهلية في كل محافظة يقوم الأزهر بإمدادها بالمدرسين والمناهج الدراسية ويقوم علي إدراتها جماعة من مؤسسيها ومجلس إدارة منتخب يمثل المساهمين في كل مدرسة ، وبالطبع فإن أكبر التحديات التي قد تواجه مثل هذا المنهج الإصلاحي هو دور الأزهر ودعمه لهذا المنهج ، فصناع القرار في الأزهر الآن يميلون إلي التيارات العلمانية والليبرالية بشكل ملحوظ كما تجلي ذلك في وثيقة الأزهر وتقارب مشيخته مع التيار الثقافي التغريبي الذي يلوث الحياة الثقافية والحضارية في مصر منذ أكثر من ثلاثين عاماً مضت ، و علي أي حال فإن الأزهر – كمؤسسة - لم يكن له أي دور إصلاحي خلال الخمسين عاماً الأخيرة ، والدليل البديهيّ علي غياب مثل هذا الدور هو السكوت المشين الذي مارسته مؤسسة الأزهر تجاه السياسات القمعية لنظام مبارك ضد كل التيارات الإسلامية التي ترتبط برحم الإسلام والدعوة مع الأزهر ومشيخته ، وعلي ذلك فإن أصحاب المشروع الإسلامي باختلاف أطيافهم يجب أن يستمروا في التحلي بالشجاعة والمبادرة التي مكنتهم من ريادة الإصلاح الديني في مصر طيلة العقود الأخيرة لتحقيق الإصلاح المنشود في التعليم الأساسي الأهلي في البلاد. 3- إصلاح نظام التعليم المهني والحرفي منظومة التعليم الفني والحرفي هي التي يفترض بها أن تكون حجر الأساس عند التخطيط لأي نهضة صناعية في البلاد ، فالموارد البشرية تعتبر أهم عنصر من عناصر البنية التحتية لأي منظومة صناعية ، والموارد البشرية يتم تنميتها وتوفيرها بشكل رئيسي من خلال منظومة تعليمية قادرة علي تخريج مهنيين وحرفيين في كل التخصصات ، علي قدر منافس من الاطلاع والعلم بتفاصيل تخصصاتهم بما يجعلهم قادرين علي مواكبة الصناعة الحديثة. مثل هذه المنظومة غير موجودة علي الإطلاق في مصر. كانت الدولة العثمانية هي أول دولة حديثة تقوم بإنشاء منظومة تعليمية متخصصة في تعليم وإعداد الحرفيين والمهنيين في كل الصناعات ، وتقف "مدارس الصنائع" في كل البلاد العربية كدليل حيّ وتاريخي علي هذا التفوق الفكري للعثمانيين في ذلك العهد ، فعند التفكير في الوقوف علي عتبة نهضة صناعية حديثة لا يمكننا إلا أن نفكر في إعادة بناء هذه المنظومة التي تهدمت بفعل الإهمال المتعمد من الأنظمة السياسية السابقة ، ويمكن الاستعانة بالشركات العالمية الكبري لتمويل مشروع ضخم لإعادة بناء منظومة التعليم المهني والحرفي ، فهذه الشركات تعني بتنمية الأسواق الكبري في العالم كما أنها تعني بتنمية الوعي التقني عموماً لتلك الأسواق حتي تصبح قادرة علي مواطبة التطور التقني الذي تقوم به هذه الشركات من خلال منتجاتها ، فيمكن من خلال عقد عدة ورش عمل تضم متخصصين في التعليم وخبراء في التعليم المهني والتقني يتم استقدامهم من الدول المتميزة في هذا المضمار أن يتم صياغة الخطة التي يمكن من خلالها إعادة تجهيز الورش والمعامل الخاصة بالمدارس الصناعية والزراعية ، ويبقي التحدي الأكبر في كيفية تغيير الثقافة المصرية لنعيد الإحترام والتقدير الاجتماعيين لطبقة الحرفيين والمهنيين التي تعتبر الأساس لأي نهضة صناعية نطمح إليها. المراجع [1] موقع الهيئة العامة للاستعلامات http://www.sis.gov.eg/En/Story.aspx?sid=9 [2] OECD 2009 Global Education Digest http://www.sourcingline.com/country-data/university-educated-population [3] منظمة النقد الدولية http://www.imf.org/external/pubs/ft/weo/2011/01/weodata/index.aspx * باحث زائر – جامعة ماليزيا التكنولوجية [email protected]