بعد أن تجبرت قلة من ثوار التحرير وتحول الأمر من خلالها إلي ما وصفه البعض بدكتاتورية الثوار انفرد هذا البعض بالتصرف في مستقبل مصر وإملاء ما يرونه مختزلين الشعب في رؤاهم وحدهم فقاموا بإغلاق مجمع التحرير أمام الموظفين والعامة من أصحاب المصالح ، ثم فتحوه وكتبوا عليه فتح بأمر الثوار . وأملوا علي الحكومة ترشيحاتهم للوزراء ، ثم أعلنوا إلغاء إرادة الشعب وفرضوا شعار الدستور أولا ثم استبدلوه بالمواد الحاكمة للدستور ، وظنوا أن الأمر أصبح في أيديهم وحدهم ، كان لابد من أن يخرج قطاع من الشعب ليحافظ علي مكتسباته الثورية وليعيدهم إلي رشدهم ويخبرهم أن مصر أكبر من أي فصيل أو حزب سياسي وأن الإرادة لجموع المصريين لا لقلة لم يفوضها الشعب مهما كان من دورها الوطني أو حرصها علي دعم الحرية . جاءت جمعة التاسع والعشرين من يوليو لتشهد احتشاد مليونيات شعبية توضح هوية مصر الحقيقية وتحدد بوضوح حجم هذا البعض ونصيبه في الشارع المصري . ولأن هذا الحجم الذي بدوا عليه قد أفزعهم خرجوا يصرخون في وسائل إعلامهم الموجهة من أصحاب رأس المال وادعوا أن التيار الإسلامي خان الاتفاق معهم في ألا يظهر شعارات تخصه ، ولم لا وهم مصدر الإيحاء بكل شئ فهم يعلمون جميع التيارات ما ينبغي أن يفعلوه ومالا ينبغي ، أما هم فلهم الحق في رفع أية شعارات دون رقيب أو حسيب ، أليسوا هم الثوار وحدهم ؟ واجتمعت كافة القنوات الفضائية علي قلب رجل واحد تهاجم التيار الإسلامي وتثير المخاوف حوله وتستعدي الشعب في الداخل والقوى الداعمة لليبراليين في الخارج عليه وأن ظهوره بهذه القوة يستوجب وقفة لتحجيمه ودون اتباع أية وسائل ديمقراطية يدعون أنهم أنصارها . ولم يتطرق أي من الصارخين إلي محاولة إعادة النظر في تحديد مفهوم القوى السياسية فهل مجرد التقاء شلة من الأصحاب لا يزيد تعدادهم عن رواد مقهى يعتبر قوة سياسية حتى لو امتلكت وسائل إعلامية تساعدها علي ارتفاع صوتها وطرح آرائها ؟ بل إن الأمر يحتاج إلي إعادة نظر حول مفهوم الحزب السياسي مهما كان تاريخه أو شعاراته فالقضية تتصل بواقعه ومدى عمقه الشعبي ، فمن الممكن أن يرتكن حزب سياسي علي ماضي حقيقي أو مصطنع ثم يتواري دوره وتتراجع شعبيته وتضمحل كحزب الوفد مثلا . أو أن يظل قاصرا علي مؤسسيه وبعض أتباع يلتقون حول بعض المبادئ أو المصالح دون أي وجود حقيقي في الشارع ويرضي أتباعه بما تمن عليهم به السلطة السياسية كعضوية في الشورى أو اختيار عشوائي في وزارة كحزب التجمع مثلا . فمعيار القوي السياسية أو الحزب في شعب تعداده يزيد علي الثمانين مليون كمصر ينبغي أن يكون له حد أدني مهما كانت قوانين حرية تكوين الأحزاب ، ويجب أن نرى أحزابا تعبر عن قوى شعبية أي قاعدة تفرز حزبا وليس مجموعة تكون حزبا ثم تبحث عن قاعدة شعبية فذاك منطق مقلوب في علم السياسة . وإذا كانت النخبة الثقافية تبحث عن تسيد الساحة السياسية من خلال علو الصوت في وسائل الإعلام فذلك لا يفرض أن يكون لها قبول جماهيري وإنما يمكن أن تعبر عن مصالح لها ولمموليها وهذا البعد تكشفه صناديق الاقتراع الحر . ومثل هذه النخبة تبحث الآن عن نظام انتخابي يسمح بتواجدهم علي الساحة من خلال حشرهم في قوائم تتيح لهم فرصة المرور ، ويثيرون مخاوف الشعب من أن غير ذلك سيعيد فلول النظام القديم ، ألا يعد ذلك قمة الهزل ؟ وأمام وضوح حجم التيار الإسلامي في هذه الجمعة وعدم إدراك المراقبين لحجم الذين قرروا الانسحاب حرجا ولم يتأثر بخروجهم أي ركن في الميدان برغم أنهم زادوا علي الثلاثين ائتلافا ولم يدر أي متابع متى دخلوا ومتى خرجوا إلا من خلال الضجيج الإعلامي في قنواتهم الفضائية التي لا تعكس إلا صوتهم بعيدا عن النبض الحقيقي للشعب ، كان عليهم أن يعيدوا النظر في مسلماتهم الثقافية وانتماءاتهم الأيديولوجية وأن يتيحوا لأنفسهم فرصة إعادة القراءة لمنهج التيار الإسلامي ولماذا يحظى بهذا التأييد الشعبي الجارف في حين أنهم ظلوا منحصرين في حجم النخبة منذ محاولات التنوير في عصر محمد علي ، أو نشأة الحزب الشيوعي في أعقاب الحرب العالمية الأولي حتى الآن بدلا من أن يزيدوا من هجومهم علي هذا التيار المعبر عن غالبية شعب مصر واستعداء الدنيا عليه مع علمهم بأنه يعبر عن غالبية المصريين ؟ وإذا كانت الديمقراطية التي يدعون أنهم دعاتها أو حماتها تعني إعلاء الإرادة الشعبية فهل فرض مواد فوق الدستور لا يعد اعتداء علي أولويات الديمقراطية ؟ وهل المطالبة بالدستور أولا لا يعد التفافا علي هذه الإرادة الشعبية وبالتالي هدر للديمقراطية ؟ الديمقراطية هي الإقرار بأن الشعب هو مصدر كل السلطات دون وصاية أو إلزام مسبق من أي جهة مهما كانت ، ولعل تنبه هذا الفصيل من الثوار الوطنيين إلي حجمهم الطبيعي بعد غفلة هو الذي فرض جمعة تحديد الهوية ، أو جمعة كشف الحقيقة ، فهل سيعتبرون أم أن لهم ولداعميهم موقف آخر ؟