لقد كانت لخواطر الشيخ الشعراوي أثر بين في نفوس المتلقين ، و قد تباينت الآراء حول إقبال العامة و الخاصة على خواطره التفسيرية و نخص بالذكر دروسه الشفاهية ، حيث دارات آرائهم في فلك واحد و هي الموهبة الربانية التي فطر الله – سبحانه و تعالى – بعض عباده عليها ، بيد أننا لا نكتفي بهذه النتيجة فحسب بل وجدنا العلة كامنة في إجادة الشيخ الشعراوي توظيف الآليات الشفاهية عند تناوله للنص القرآني بالدراسة و التفسير أمام مستمعيه، و قد عرضنا في المقال السالف جانبا عن هذه الآلية و الممثلة في درجات الصوت المستعملة في العملية التفسيرية ، و تثنية لما أسلفناه نلقي الضوء على آلية من آلياته التفسيرية الشفاهية و الكائنة في الإشارات الجسدية في خواطره.
فلم تك الإشارات الغير لغوية (إشارات الجسد ) و دلالتها وليدة القرن العشرين ، بيد أنها أخذت حيزا من آراء علمائنا في آونة التقعيد لعلمي الدلالة و البلاغة العربية ؛ فقد نظر بعضهم إلى (الإشارة) على أنها قد تغني عن اللفظ في الدلالة على المعنى ، و قد تقترن باللفظ فتؤكد دلالته و تقويه في نفس السامع و الرائي إذ هي ترجمة له ، و هذه الإشارة الجسدية هي الغاية المقصودة في هذه الدراسة ، و لكن عرض البلاغيين لهذا المصطلح قد خرجوا به عن معناه الحسي الحقيقي إلى معان أخرى تدور في معظمها حول الإيجاز لا سيما إيجاز القصر ، إذ يقصدون منها الإيماء أو اللمحة الدالة فكما أن المشير يومئ بيده أو برأسه للدلالة على معاني يقصدها و يريد إفهامها للرائي كذلك المتكلم قد يريد باللفظة الواحدة أو الألفاظ القليلة الإيماء إلى معان كثيرة ،فالمعنى اللغوي للإشارة وثيق الصلة بالمصطلح البلاغي([1]) . و لعل أول من تحدث عن الإشارة و جعلها من وجوه البلاغة هو عبد الله بن المقفع عندما سئل عن البلاغة و تفسيرها فقال : و منها ما يكون في الإشارة ، فابن المقفع يرى أن الإشارة بمعنى الإيجاز ، و هي جزء من حصره للبلاغة. و يركز الجاحظ على الإشارة و أثرها في الوصول بالمستمع إلى المقصود فيقول: ( الإشارة و اللفظ شريكان . و نعم العون هي له . و نعم الترجمان هي عنه . و ما أكثر ما تنوب عنه اللفظ . و ما تغني عن الخط )و تؤكد التجربة ما ذهب إليه الجاحظ : فعندما تتحرك اليد حركة منسجمة مع المعنى المراد .. أويهتز الجسم . أو الرأس . يصبح ذلك عونا على الفهم .. بقدر ما يشيع من حيوية في جو الموقف ([2]). القرآن الكريم و الإشارات الغير لغوية و قد جاء القرآن الكريم مبينا دور الإشارة في أكثر من موضع ، و منه قوله تعالى : (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)) {آل عمران} فاللإشارة تستخدم و تنزل منزلة الكلام حين يتطلبها المقام و يقتضيها الحال ، فحال زكريا عليه السلام حال شكر على هذه النعمة العظيمة و المعجزة الباهرة تستلزم عقل اللسان عن كل ما سوى الله ، و الانصراف كلية إلى شكر المنعم بذكر و دوام تسبيحه مدة أيام بلياليها . و لذلك يقول الزمخشري مبينا مدى مطابقة الجواب للسؤال " و أحسن الجواب و أوقعه ما كان مشتقا من السؤال و منتزعا منه "([3])
أي أحسن الجواب أن يراعى فيه – بعد المناسبة في المعنى – المناسبة في اللفظ كما ذكر أنه لما طلب الآية للشكر أجيب بأن آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر ([4]). الحديث النبوي الشريف و الإشارات الغير لغوية أما الحديث النبوي الشريف فقد سلك طريق التصوير بالإشارة و الحركة و الرسم فكان لحركته صلى الله عليه و سلم و إشارته أثر كبير في إجادة الأداء فحركته و إشاراته وقعت موقعها في النظم النبوي الشريف ، و من ثم كانت معنية أكثر من حاسة فالناظر يرى بالإشارة و يسمع العبارة ، و يذكر كل منهما بالأخرى فهي تنبه الغافل و تعين على اللفظ و التذكر ([5])
و إذا إتفقت معظم الآراء على أن فضيلة الشيخ الشعراوي إمام المجددين في القرن العشرين ، فإننا لا يسعنا إلا الإشارة إلى أنه جدد من جهد العلماء حول علمي الدلالة و البلاغة العربية عمليا دون التنظير لهما ؛ و خير شاهد و دليل الإشارات الجسدية المستعملة في الدرس التفسيري في خواطره حيث أخرجها من دائرة التقييد لها بالإيجاز – كما قرر ذلك علمائنا السالفين - إلا فضاءات أخرى ؛ فقد كان للإشارات الجسدية دور هام في أحاديث الشيخ التفسيرية ، لما حملته من مرادات وأهداف تفسيرية منهجية تلاشت عند نقل دروس الشيخ من الشفاهية إلى النصوص المكتوبة . و ستقوم هذه الدراسة على بيان دور الإشارات الجسدية في أحاديث الشيخ الشعراوي ، و المرادات التي سعت إليها ، وبيان الأثر المترتب على العملية التفسيرية برمتها ؛ و ذلك لمحاولة الكشف عن أثر التفسير الشفاهي على المتلقي لدروس الشيخ ، و جعلت من دروسه التفسيرية الصدارة بين مفسري القرن العشرين . و قد تنوعت الإشارات الجسدية المستعملة في خواطر الشيخ ما بين إشارات تمثل لكل من (اليد ، العين ، تعبيرات الوجه ، ...) و تقوم هذه الدراسة على كشف أثر استعمال الشيخ للإشارات الجسدية عند تناوله لتفسير النص المبارك ، و نخص بالذكر حركة اليدين، فحركات اليدين و إشارتهما قد تصف لنا الحالة المزاجية للشخص أحيانا ، و هي تحل محل الكلام أحيانا أخرى ، و قد تكون الحركة أو الإشارة تعبيرا عن الاحترام أو التهديد أو إلقاء الأوامر([6]). و هذا ما سنحاول بمشيئة الله – سبحانه و تعالى - الإشارة إليه في الأسطر التالية: قبض اليد فقد أخذت إشارة قبض اليد في خواطر الشيخ الشفاهية دلالات عدة ، منها ما تعرض إليه في تفسيره لقوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19))([7]). فقوله تعالى: { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } أي: فقد كذبكم الذين عَبَدْتُم فيما زعمتم أنهم لكم أولياء، وأنكم اتخذتموهم قربانا يقربونكم إليه زلفى، كما قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 -6] (تفسير القرآن العظيم:361 )([8]). والقول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) } يقول تعالى ذكره للمؤمنين به:( وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ ) أيها المؤمنون- يعني بقوله:( وَمَنْ يَظْلِمْ ) ومن يشرك بالله فيظلم نفسه، فذلك نذقه عذابا كبيرا (جامع البيان في تفسير القرآن )([9]).
و هذا إخبار عما سيكون عليه المشركون - أهل النار - من عذاب يوم القيامة ،و أيضا فيها إنذار للمؤمنين بعدم الانزلاق في غيابات الشرك حتى لا يلحق بهم ما لحق بالمشركين ، و الشيخ بيَّن ذلك المراد بأسلوب شفاهي مبسط يفهمه العامي ووسيلته في ذلك الجمع بين اللفظ و الإشارة الجسدية ، فإشارات اليد جاءت لبيان حال المشركين ووسيلته (قبض اليد) الحاملة لدلالة العنف و عدم الرحمة و نفي التسامح معهم ،و هذا المعنى مستمد من النص القرآني ذاته فقد جاءت العديد من الآيات القرآنية المباركة المتضمنة ل (قبض اليد) تحمل دلالة عدم الإعطاء ، ففي قوله تعالى : (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29))([10]) فالآية المباركة المتضمنة لمراد قبض اليد تحمل دلالة المنع و عدم العطاء ، فإشارة القبض التي استعان بها الشيخ أفادت عدم إعطاء المغفرة للمشركين يوم القيامة ، و هذه الإشارة لم يستعملها الشيخ في حديثه عن المؤمنين في نفس الآية المعنية بالدراسة ؛ بيد أنه استخدم السبابة للإشارة إلى الجانب الآخر للدلالة على جزاء المومنين المغاير لجزاء المشركين. فحركة اليد المستعملة في خاطرة الشيخ التفسيرية طابقت المقام التفسيري بما يتفق و حال المتلقي.
بسط اليد أما إشاراة بسط اليد في خواطر الشيخ الشعراوي فقد حملت دلالات عدة ، منها ما جاء في قوله تعالى : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187))([11]). و كعادة الشيخ الشعراوي في تفسيره الموضوعي ؛ فقد انتقل بخواطره إلى تفسير قوله تعالى :(لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا)، أي كانوا يقولون: راعنا سمعك! فكان اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين، فقال الله:(لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا)([12]). و هذا المعنى يحمل في طياته السماح ، و هذا ما عبر عنه الشيخ بإشارة (بسط اليد) ، و قد جاء النص القرآني المبارك مؤكدا على دلالة هذه الإشارة الجسدية في أكثر من موضع كما في قوله تعالى : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) )([13]). فإذا ما نظر المدقق إلى مراد كلمة (مَبْسُوطَتَانِ) و جد أنها تحمل معنى العطاء بكثرة و مضادة لكلمة (مَغْلُولَةٌ) . فالشيخ قرن إشارة اليد المبسوطة بلفظة ( انظرنا ) المسموعة التي تفيد الإمهال و السماح لهم بشكل غير مقصود ؛ لتأتي الإشارات الجسدية ترجمانا للفظة العربية في خواطر الشيخ الشعراوي .
و من ثم يتبين لنا أن خواطر الشيخ الشعراوي الشفاهية تحمل ظلال تمتد بالدعوة إلى تطور الدرس التفسيري و البلاغي في القرن العشرين ، و هذا ما نظنه مفقودا عند نقل خواطره من الشفاهية إلى الكتابية !
[1] - البلاغة القرآنية في التصوير بالإشارة و الحركة الجسميةد / عبد الله محمد سليمان هنداوي – مطبعة الأمانة – ط 1 – 1416ه- 1995م :ص8 [2] - راجع البيان و التبين -[3]الكشاف :1/429 [4] البلاغة القرآنية في التصوير بالإشارة و الحركة الجسمية :32 [5]نفس المرجع:33. [6]- أنظر : المبيضين – وسائل الاتصال – ص 107 [7] - الفرقان الآية :19 [8] -تفسير القرآن العظيم:361 [9] - جامع البيان في تفسير القرآن: [10] - الإسراء [11] - الشعراء الآية :187 [12] - جامع البيان في تفسير القرآن :16 [13] - المائدة