لم تفق قلوبنا من وطأة المأساة التي يعيشها أهلنا في غزة بفعل العدوان الهمجي الإسرائيلي الذي يستهدف المدنيين بشكل مباشر وصريح ، ولم تفق مشاعرنا من صدمة عشرات الجثث في شوارعها لأطفال ونساء ومواطنين أبرياء حتى فجعنا بكارثة الهجوم الغادر على نقطة عسكرية لقوات حرس الحدود في واحة الفرافرة ، أسفرت عن استشهاد أكثر من عشرين مجندا وضابط صف ، وهي فجيعة بكل المقاييس من حيث عدد الضحايا ، كما أنها خطيرة من حيث أنها الأكبر حتى الآن في جرائم الإرهاب الأسود الذي عاد يضرب البلاد طوال الأشهر الماضية ، ولا يمكن أن نتجاهل أن هذا السياق الدموي ، سواء في غزة أو في الفرافرة ، لا يخرج عن السياق الدموي الرهيب الذي تعيشه المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة ، وتستطيع بسهولة رصد آثاره في سوريا وفي العراق وفي اليمن وفي ليبيا وفي الجزائر وفي تونس ، وإن كان بدرجات متفاوتة حسب درجة الانقسام أو حدته . من الطبيعي والبديهي والأخلاقي والوطني أيضا أن نجتمع على إدانة ما حدث ، وفضح الإرهاب الذي لا يمكن تبريره ، من الضروري أن نفضح هذه السلوكيات التي لا يمكن أن تنتمي إلى دين أو شريعة وأن نتواصى لحماية وطننا من دوامات العنف التي تعصف بالمنطقة كلها ، وأن تتضافر جهود "العقلاء" للبحث في كيفية تحصين الوطن من الانجرار إلى دوامات الدم هذه ، وأقول "العقلاء" فقط هم المدعوون ، لأن كثيرا من الأصوات التي تعلو الآن وتتوسد مكانا عليا في وسائل الإعلام هي أصوات "غشيمة" وعقيمة وغير مسؤولة ، وهي تقدم بغبائها وعبثية أدائها أعظم خدمة لقوى التطرف والإرهاب ، لأن الإرهابيين لا يحتاجون لأكثر من الإشارة إلى هذه الأصوات الناشزة والكلمات المستهترة بكل خلق أو دم أو قانون أو عدالة أو دين ، لكي يتخذوها سندا أو مبررا مزعوما لجرائمهم في حق الوطن ، وإذا كان القدماء حكوا لنا عن "الدبة التي تقتل صاحبها" ، فإن جيلنا يمكنه أن يتحدث عن "دبب" كثيرة تساهم في قتل الوطن أو انقسامه أو تدميره ، بكل رعونة ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . غير أن إدانتنا للإرهاب الأسود وفضحه لا يمكن أن تكون "شماعة" نعلق عليها أخطاءا واضحة ، ومتكررة ، يصعب فهمها ، كما من حق الشعب أن يعرف الأسباب ومن المسؤول عما جرى ، فأحيانا نشعر بأن علو الصوت بشتيمة الإرهاب وهجاء الإرهاب أصبح مقصودا منه صناعة قنابل دخان تستر الحقائق وتضلل عن تحديد المسؤوليات وتحميل المسؤولين ثمن أخطائهم ، حيث ناموا وأنامونا معهم بمعسول الكلام والتصريحات عن الإرهاب الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة والإرهاب الذي تم اجتثاث جذوره بينما الإرهاب يتمدد ويتوسع ويزداد وحشية على النحو الذي رأينا ، وأرجو أن لا يكون مصير حادثة الفرافرة هو نفس مصر حادثة رفح قبل عامين ، إن حادثا دمويا يقع في مزلقان للسكك الحديدية في مغاغة يكون كفيلا بإقالة رئيس هيئة السكك الحديدية في القاهرة ، ليس لأنه كان موجودا أو أنه نام أو أنه لم يغلق المزلقان في اللحظة المناسبة ، وإنما لأنه المسؤول عن توفير الأدوات وعن اختيار العاملين وتدريبهم بشكل ملائم للمهمة ومسؤول عن توفير التجهيزات المناسبة والكافية ومسؤول عن الرقابة والمتابعة والمحاسبة لمن يقصر ، فكونه استهتر بذلك كله أو قصر في أداء واجباته فيه ، أو كان مشغولا باحتفالات الأنجال والأحباب في بعض فنادق القاهرة الفاخرة ، كل ذلك يستدعي محاسبته ومجازاته على هذا التقصير الذي أنتج مثل تلك الكارثة التي أوجعت قلوبنا ، ومزقت قلوب أمهات ويتمت أطفالا ونشرت الحزن في عشرات البيوت . أيضا ، فالمؤكد أن هذا الذي تعيشه المنطقة من حولنا ، وأيضا ما تجلى من إصرار التنظيمات الإرهابية على الاستمرار في عنفها وجرائمها ، كل ذلك يستدعي من صاحب القرار أن يحافظ على الحاضنة الاجتماعية الملتفة حول قواتها المسلحة تحميها وتدعمها وتنصرها ، لأن ذلك يحرم الحركات الإرهابية من أن يكون لها أي حاضنة اجتماعية تدعمها أو تمثل مددا أخلاقيا أو اجتماعيا أو ماديا لها ، وتلك مسألة بالغة الخطورة في حسم المعركة مع الإرهاب ، ولكنه تحدي يحتاج إلى صيغ أخرى أكثر نضجا وتماسكا من العلاقة بين الجيش والشعب ، وأسس جديدة تحكم العلاقة بين المواطن وأجهزة الدولة ومؤسساتها . رحم الله هؤلاء الجنود الشهداء الذين أدوا واجبهم نحو وطنهم ، وضحوا بأرواحهم في سبيل الواجب ، وأسأل الله أن يتقبلهم في هذا الشهر الكريم بكريم عفوه ورحمته ، والمؤكد أنهم يقابلون وجهه وهم صائمون صابرون ، وحفظ الله بلادنا من كل شر وأسبغ عليها نعمة الأمن والسلام وهداها إلى طريق دولة العدل والحرية وكرامة الإنسان .