نشرت مقالة الأستاذ عبود الزمر: "لا ولاية لأسير ولا قرار لجريح" على صفحتي على الفيس بوك وطرحتها دعوة عامة للنقاش، وإعادة التفكير في تداعيات اللحظة الراهنة المحتدمة منذ 3 يوليو، ومحاولات التفكير خارج الصندوق وبعيدا عن الحلول النمطية والإجابات المقولبة، فما أحد يحتكر الحقيقة ولا أحد من المختلفين يصدر عن نص قاطع في القضية موضع النقاش، وليس ثمة أحد لا ينطق عن الهوى إلا المعصوم. كانت دعوة للتفكير وإعمال العقل الذي هو مناط التكليف ودعوة للتأمل بلا وصاية ولا احتكار التحدث باسم الحقيقة المطلقة، ولا التعبير النهائي عن شريعة الإسلام. كانت دعوة للتفكير بهدوء والتحرر من أسر اللحظة الراهنة، وضغوط الواقع، وسطوة الاصطفاف، وتداعيات الانقسام الحاد الحادث منذ ما قبل 30 يونيه. إلا أن ردود الفعل على المقال بينت كيف تقود عواطفُ الجماهير القيادات المنوط بها القيادة وتحمل المسؤولية التاريخية، وكيف تضغط التصورات العامة والتفكير بالشعارات على متخذي القرار في التنظيمات الأيديولوجية والجماعات التنظيمية، وكيف تسلب الضغوط التنظيمية والفكرية زمام المبادرة من أيد صناع الأحداث فيكونوا أقرب للمشاهدين أو المراقبين عن بعد، وكيف يكون التحزب الأعمى الذي يقود إلى الهاوية وسفك الدماء وضياع المقدرات والمكتسبات التي تم إنجازها على مدار عقود. ما ادعى أحد العصمة لما طرحه الشيخ عبود الزمر ولا غيره ولا الرجل تحدث باسم أي كيان خارج ذاته ورؤيته الشخصية، وما زعم أحد أنه ينطق باسم الحقيقة المطلقة، ولكنه ربما يكون تفكيرا خارج الصندوق، ومحاولات طرح رؤى مغايرة في وقت أحوج ما نكون فيه لأساليب مختلفة في الخروج من الأزمة التي حشر فيها الوطن بجماعاته وأحزابه وتياراته السياسية. أعلم يقينا أنه في وقت الاستقطاب ليس مسموحا السؤال عن خلفيات المواقف والرؤى، إنما هو سؤال واحد في أي الصفين تقف؟ وهل أنت من جيشنا ولا في جيش العدو؟ هل أنت مع الجماعة المؤمنة المعصومة من الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، أم أنت مع الشيطان الرجيم؟ وهل أنت تقف في صف الوطن أم مع أعداء الوطن؟ وفي لحظات الاستبداد النموذجية يتوحد الوطن بشخص الحاكم، ويكون كل من عارضه عارض الوطن، ووقف مع أعدائه. وكل طرف يعتبر نفسه الجماعة المؤمنة والسالكة على درب الأنبياء، أو يعتبر نفسه المتحدث باسم ملايين المواطنين وباسم الوطن ذاته وتكون المعارضة السياسية خيانة وطنية، والحقيقة أننا في لحظة استبدادية نموذجية من 3 يوليو. وتمت على مدار ما يقرب من عام كامل عملية شيطنة ممنهجة للآخر بحيث لا تسمح لأحد لا بالتفكير ولا بالتدبر ولا بالاتعاظ، ولا بالتشكيك في صحة المسار المرسوم سواء أكان يصطدم بالحائط أم ينذر بالانفجار الرهيب. كانت جوهر الردود على طرح الأستاذ عبود الزمر يمس شخصه الكريم وخلفياته التاريخية ولم يناقشه أحد فيما ما طرحه سواء الموافق والمخالف، وأنكرت الجماعة التي ينتمي إليه أنه يتحدث باسمها كما لو أن الرجل زعم أنه يتحدث باسمها. كان مقاله كاشفا وليس منشئا عن عمق الأزمة التي يمر بها الوطن وجماعاته السياسية والفكرية. تكلم أحد العلماء قديما عن طاغوت الجماهير وكيف يشكل المزاج العام في مرحلة من المراحل أحد محددات التفكير، وقال إن العالم كما ينافق الحكام يمكن أن ينافق مشاعر الجماهير خشية سطوتها، وخشية استباحتها لعرضه. الأمر بحاجة إلى إعادة التفكير في مناهج التفكير وطرائق العمل وأساليب بناء المواقف. الأمر بحاجة إلى أن نخلع رداء القداسة عن اجتهادات بشرية قد تصيب وقد تخطيء. جوهر السياسة هي فن الممكن، أقصى الممكن، وليس محاولة المستحيل، أو طرح مقولات لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع. الأمر بحاجة إلى عادة النظر في طرق التناول ومنهجيات الاختلاف، والسياسة في منهجها أمر اجتهادي، شريطة أن يكون الاجتهاد من أهله وفي محله، وقد استوفى شرائط النجاح. أشد على يد الأستاذ عبود الزمر لما تحلّى به من شجاعة الإقدام على طرح ما يخالف النغمة السائدة، وقدم نمطا من التفكير مختلفا بصرف النظر أصاب فيه أم أخطأ. ففي أوقات الاستقطاب يكون طرح الرؤى المغايرة عملا استشهاديا خاصة إذا كنا في بيئة لا تؤمن بالخلاف، ولا تحترم التعدد، ولا تعتبر التنوع فعلا ايجابيا. ولا يمكن أن يكون الله منحنا عقلا وجعله مناط التكليف حتى يسير الإنسان كما تسير المخلوقات غير المكلفة، تساق إلى حتفها وهى لا تملك فكاكا من مصيرها المحتوم. شكرا أستاذ عبود فقد كانت مقالتك حجرا في ماء ركد حتى أسن. ولابد أن يصيبك بعض رذاذه.