قال الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته اليوم بحفل تخرج دفعة جديدة من الضباط أنه لا يستطيع أن يتدخل في شؤون القضاء المصري لأنه مستقل وشامخ ، وذلك تعقيبا على الضجة العالمية الكبرى على الأحكام الأسطورية بسجن صحفيي قناة الجزيرة سبع سنوات إلى عشر سنوات لأسباب تتعلق بأدائهم مهام عملهم بطريقة أغضبت السلطات المصرية ، وكان هذا الحدث وما زال يفجر دوائر الغضب في الإعلام العالمي تجاه الحكم الجديد وتجاه السيسي شخصيا ، لأنه أول من يدفع فاتورة تلك الأحكام ، كما تسببت الأحكام أيضا في حرج بالغ للخارجية المصرية التي عانت الأمرين أمس في محاولة تخفيف عنف التصريحات والمواقف الغربية تجاه الأحكام المروعة ، فهل السيسي طرف في المسؤولية فعليا ، أم أن الأمور القضائية خارجة عن إرادته بالكامل كما يقول ، وهل هناك توجيه بالفعل لمثل هذه الأحكام . في تقديري أن السيسي ليس طرفا في هذه الأحكام بشكل مباشر ، ولم يوح إلى أحد بصدور مثل هذه الأحكام ، ولا أتصور أي حاكم عاقل يقدم نفسه للعالم كملتزم بالديمقراطية والإصلاح ثم يطلب من محكمة إعدام خمسمائة معارض في قضية واحدة ، بل إن مثل هذا الحكم هو في جوهره طعنة للسيسي نفسه وورطة كبرى ، وأنا واثق أن السيسي يشعر بالإحباط والغضب من صدور مثل هذه الأحكام المتوالية التي يصعب منطقيا الدفاع عنها وتمثل أسوأ دعاية لحكمه وتشويه لسمعته ، ولكن هذا لا ينفي مسؤولية السيسي عن مجمل هذه الصورة التي عليها القضاء المصري وعن مشاركته في مقدمات تنظيمية أفضت إلى هذا كله ، لأن المنظومة التي عمل من خلالها طوال الأشهر العشرة السابقة لتوليه الحكم هي التي أحدثت الاضطراب في أحوال القضاء وميزان العدالة ، يتحمل مسؤوليتها بشكل مباشر المستشار عدلي منصور الرئيس المؤقت ، الذي بادر بالحديث إلى وزير العدل وقتها المستشار عادل عبد الحميد بأن يتم تشكيل دوائر قضائية مخصصة للقضايا الإخوانية ، وذلك بعد أن تعددت حالات اعتذار قضاة شرفاء عن نظر قضاياهم استشعارا بالحرج ، فقام المستشار نبيل صليب رئيس محكمة استئناف القاهرة بإعداد اثني عشر دائرة قضائية خاصة لنظر تلك القضايا خاصة ، وكذلك فعلت محاكم الاستئناف الأخرى في الصعيد والدلتا ، فتم تشكيل دوائر قضائية خاصة بقضاة مخصوصين لنظر قضايا خاصة ، وكل هذه "الخصوصية" لها دلالات "خصوصية" لا تخفى على أحد في الداخل أو الخارج ، وهذه الطريقة تتنافى تماما مع معايير العدالة والشفافية ، وكل الأحكام الصادمة والمروعة التي أثارت الضجيج كانت من هذه الدوائر تحديدا . وبالتالي ، فالحديث عن استقلال القضاء المصري ، رغم أمنياتنا ، إلا أن هناك مواقف وتصريحات وقرارات وتوصيات وشواهد تجعل من إقناع العالم بحقيقة تلك "الاستقلالية" مسألة بالغة الصعوبة ، والمستشار عدلي منصور الذي كرمه السيسي واعتبره مفخرة مصرية هو أيضا الذي طلب من النائب العام النظر في مواقف الطلاب المحتجزين بقرارات النيابة العامة رفقا بأسرهم ، وعلى الفور قام النائب العام بتوجيه النيابات المختصة وتم الإفراج عن آلاف الطلاب خلال أسبوع من "توجيه" عدلي منصور ، رغم أن هذا تدخل صريح من السلطة التنفيذية في شؤون القضاء ، مهما حاولنا "تلطيف" التدخل وأنه رجاء أو التماس أو أي ألاعيب بلاغية أخرى ، أيضا نذكر جميعا ما فعله المشير طنطاوي مع المتهمين الأمريكيين التسعة عشر الذين تم منعهم من السفر على ذمة قضية التمويل الأجنبي وهاج الأمريكيون وماجوا وغضبوا ولوحوا ، ففوجئ الناس بالأمريكيين التسعة في الأسبوع الثاني في نيويورك بأحضان ذويهم ، وفي التفاصيل علمنا أن رئيس استئناف القاهرة طلب من قاضي المحكمة التنحي عن نظر القضية ، ثم حدث تعديل في صيغة التوقيف ودفعوا كفالة رمزية ورفع حظر سفرهم وغادروا ، وكانت المسألة فضائحية إلى حد أن تم التحقيق مع المستشار عبد المعز إبراهيم رئيس استئناف القاهرة وطالب قضاة كثيرون بمحاكمته ، وبالمناسبة ، ما هي أخبار تلك القضية ؟!! استقلال القضاء شرط لبناء دولة حديثة ، فضلا عن أن تكون دولة ديمقراطية ، وهو مطلب طالما ناضلنا من أجله ، وما زلنا ، ولكن القضاء كمرفق مدني وجزء من مؤسسات الدولة وبنيتها ، لا يمكن فصله عن بقية الجسد فهو يتأثر بحال الدولة وعافيتها وأجهزتها ومؤسساتها سلبا أو إيجابا ، وبالتالي يصعب أن يكون القضاء كامل الاستقلالية في بيئة غير ديمقراطية ، أو في بيئة تتغول فيها السلطة التنفيذية بدون رقابة شعبية حقيقية وقوية وبرلمان قوي ومجتمع مدني قوي وإعلام حر قوي ومستقل ، ولذلك لا يقتنع العالم من حولنا كثيرا بزعيقنا عن استقلال القضاء المصري وشموخه ، لأنه ينظر إلى الصورة العامة للدولة وحال الحقوق والحريات والديمقراطية فيها ، فيعرف الجواب عن حال قضائها بدون حاجة للغرق في تفاصيل فنية ، وإذا أراد السيسي أن ينقذ نفسه من هذه الورطة ويوقف احتشاد العالم ضده وتصنيفه ضمن الديكتاتوريات الدموية ، عليه أولا أن يتخلص من "الخازوق" الذي تركه له عدلي منصور ، كيف ، تلك تفاصيل "فنية" لن يعدم "الخبرات" القضائية التي تضبطها له !