نستكمل بما بدأناه في المقال السابق ونتحدث عن ملامح الأزمة التي يعيشها البحث التربوي في مصر.. ذلك أن النظرة العامة للبحث التربوي تشير إلى انه يعانى من أزمة حقيقية تتمثل مظاهرها في ظاهرتين أساسيتين هما : 1- التناقض وعدم الاتساق بين بعض نتائجه ، وان كان البعض يرى أن ذلك يسهم في توسيع رؤية العاملين به والمستفيدين منه. 2- الفجوة بين نتائج البحث التربوي وتطبيقه أو الاستفادة من نتائجه، وهذه الظاهرة يرى البعض أنها نتيجة طبيعية للظاهرة الأولى ، هذا التناقض قد يصل في بعض الأحيان إلى درجة تجعل المستفيدين في حيرة لصعوبة التوفيق بين النتائج المتناقضة والوصول إلى حل وسط ، فنتائج البحث التربوي لم تحسم كثيرا بل لا نبالغ إذا قلنا كافة القضايا المتعلقة بالتربية ، ولم تنجح في تقديم إجابات شافيه لقضاياه أو حلول واضحة لمشكلاته. ويمكن استعرض اهم اسباب هذه الازمة فيما يلى : 1- ضعف الاهتمام بالبحث التربوي 2- عدم توفر الرؤية الشاملة لدى كثير من الباحثين فى المجال التربوى ، حيث تقتصر معظم البحوث التربوية علي معالجة أثر عدد محدود من المتغيرات علي ظاهرة معينة ومن ثم يصعب علي أي باحث بمفرده أن يكون صورة شاملة عن كل العوامل المؤثرة في الظاهرة وذلك أنه محكوم بعوامل الوقت والجهد والكلفة وتزداد المشكلة حدة عندما لا يتقرب باحث أخر من نفس المشكلة لدراسة العوامل الأخري المؤثرة فيها حتي تكتمل تصوراتنا عن جميع الأبعاد والعلاقات المتصلة بالظاهرة موضع الدراسة ، صحيح انه مع وجود الظواهر التربوية في كليتها فإنها تنطوي كذلك علي جوانب فردية جزئية ونظراً لأنه بين الكل والجزء علاقة دينامية فإن فهم الظواهر التربوية لا يتم بكفاءة إلا باعتبار الكليات والجزئيات في آن واحد ، ولذلك فإن الباحثين في التربية في حاجة إلى بحوث كلية للظاهرة التربوية من خلال فهم جوانبها الجزئية وتفاعل الكلية مع الجزئية في الظاهرة. 3- تعقد الظاهرة التربوية وصعوبة قياسها نظرا لارتباطها بالانسان والذى يصعب التعامل معه بالقياس الدقيق والمحدد ، فالإنسان باعتباره محور اهتمام العلوم والدراسات الاجتماعية والإنسانية هو أكثر الكائنات الحية تعقيدا كفرد أو كعضو في جماعة , وسلوكه وتصرفاته تتأثر بعوامل عديدة مزاجية ونفسية لدرجة تربك الباحث الاجتماعي , وتجعل من الصعب عليه تحديد نظام أو قانون يحكم هذا السلوك المعقد المضرب ، ذلك بخلاف الظواهر الطبيعية التي يمكن دراستها على المستوى الفيزيقي فقط الذي يتضمن عددا من المتغيرات المحدودة نسبيا , ويمكن قياسها بدقة. والواقع أن مسألة التعقيد هذه مسألة نسبية , فالظاهرة تبدو للناس معقده اذا صعب عليهم فهمها أو أدراك حقيقتها , ولكن إذا أمكن تبسيطها وتحليلها وتحديد العوامل المؤثرة فيها أمكن فهمها وذال تعقيدها , فالتعقيد يعتمد على درجة معرفتها بالظاهرة أو الموضوع قيد البحث . ولذلك فإن مزيد من الفهم لتلك الظواهر وما يرتبط بها من متغيرات سوف يسهم في التقليل من درجة تعقيدها0 4- الخطا فى توضيح حدود البحث بدقة ، الامر الذى يؤدى الى الوصول تعميمات مبالغ فيها ويقود الباحث الى تعميمات واستدلالات بشكل اكثر مما تتحمله نتائج البحث ، فعدم توضيح حدود البحث جيدا قد يجعل القارئ في تيه ويقوده إلى الاستدلال والتعميم بشكل مبالغ فيه أكثر مما تتحمله نتائج البحث والعكس صحيح اى انه كلما حددت عينة البحث بشكل أكثر دقة ، كلما كان ذلك يؤدى إلى التوصل إلى وضوح أدق وأفضل لنتائج البحث وإمكانية تطبيقها.
5- استعجال التجربة في البحوث التجريبية وعدم إعطاءها الوقت الكافي للوصول الى نتائج صحيحة وتقليل احتمال تأثير الصدفة في النتائج . 6- الأدوات التي تعتمد عليها البحوث التربوية خاصة الميدانية كثيرا ما تكون غير ملائمة وتنقصها الدقة والوضوح والشمولية وغير ملائمتها للبيئات المتنوعة ، كما أن المستجيبين على هذه الأدوات لايتجاوبون في أحيانا كثيرة مع الباحثين سواء بالرفض أو الإجابة بغير اكتراث بما يؤدى الى نتائج متناقضة وغير متسقة . 7- المبالغة فى استخدام الارقام والوسائل الاحصائية لتحليل بياناته وبصورة اكثر مما يتحمله البحث ، ان الارقام وحدها هى وسيلة فقط وان وجودها واستخدام الاحصاء المعقد لتفسيرها لا يضمن مطلقا التوصل الى تحليلات واستنتاجات دقيقة ، ولكن الاطار المرجعى للباحث ونظرته النوعية للامور وسعة اطلاعه والمامه بمجالات التربية من فلسفة واصول تمكن الباحث من تقسير نتائجه والاستفادة منها وتوظيفها 8- الاستخدام والتفسير غير الدقيق لمصطلح الدلالة الإحصائية حيث تعتمد البحوث التربوية على مستوى الدلالة باعتباره الحد الأعلى حسابيا لقبول النتيجة على أساس أنها حقيقة ولم تخضع للصدفة ، ونظر لان بعض التربويين يعتبرون هذا المعيار عاليا ومبالغ فيه نظرا لانه مستعار من العلوم الطبيعية نظرا لاهمية وخطورة موضوعاتها حيث يجب ان يكون احتمال الصدفة فى ظهور النتيجة فى مثل هذه الموضوعات اقل ما يمكن وحسب خطورة الموضوع ، اما فى مجال القضايا المتعلقة بالبحوث الاجتماعية والتربوية فقد لايكون هذا المعيار ضروريا، بل ان الامر يتطلب تبنى مستويات دلالة اعلى ، نظرا للاعتقاد ان كثيرا من التجارب الجديدة والاساليب الحديثة فى التربية تقشل فى اظهار نتائج ذات مستوى دلالة وفق هذا المعيار وبالتالى تؤول النتائج الى رفض هذه الاساليب واضاعة الجهود التى بذلت فى بناءها وحرمان ميدان التربية من تطبيقها . ويرتبط بتلك النقطة هى مسالة الفروق بين المجموعات البحثية فعدم وجود فروق ذات دلالة احصائية لا يعنى ان المجموعتين متساويتين او لم يظهر اثر للمتغير التجريبى ، بل قد يكون هناك فرق ولكن هذا الفرق لم يرتق الى مستوى الدلالة الاحصائية المحددة او اقل منها. أن " الدلالة الإحصائية وحدها ليست كافية لصنع قرار تربوي أو نفسي ، فهي شرط ضروري فقط ولكنه ليس كافياً ، الكفاية تتحقق إذا ما حسبنا قوة العلاقة Strength of relationship بين المتغير التابع والمتغير المستقل ، وقوة العلاقة هنا المقصود بها " الدلالة العملية، والتي قد يسميها الباحث النفسي بالدلالة السيكولوجية، ويسميها الباحث التربوي بالدلالة التربوية . والنتيجة أن كلا منهما يكمل الأخر ويعوض النقص الكامن فيه، إذاً هما كوجهي العملة الواحدة، يؤدي استخدامها معا إلي أثراء نتائج البحوث النفسية والتربوية والاجتماعية بل البحوث في مجالات المعرفة الأخرى أن ذلك يستدعي استخدام الدلالة العملية كعنصر يعضد الدلالة الإحصائية فيكون اتخاذ القرار بذلك أكثر دقة، وأفضل في الاستدلال بصفة عامة... وللحديث بقية
أستاذ ورئيس قسم أصول التربية ووكيل كلية التربية– جامعة المنوفية عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.