لا يحظى يوم من أيام الأسبوع بين المسلمين بما يتمتع به يوم الجمعة؛ وفيما ينقل الرواة عن الرسول الكريم؛ فهو اليوم الذي خبأه الله لهم وأغفل عنه السابقين؛ فكان لليهود السبت وللنصارى الأحد. وعن النبي 'إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ'. وهناك العديد من الأحاديث حول فضل الجمعة وفضل قراءة سورة الكهف فيه، وفضل المشي إلى المساجد وحتى فضل الموت في يوم الجمعة. وعندما انتقل مركز الثقل الإسلامي من الجزيرة إلى حواضر تحب الحياة مثل دمشقوالقاهرة وبغداد أضيفت لمحات دنيوية لليوم، فهو اليوم الذي تسبقه ليلة المتعة، وبين الرجال والنساء صار التذكير بأن اليوم هو 'الخميس' قادرا على تركيز حمرة الدماء في الوجه الحيي. والإسلام ليس ضد الدنيا ولا ضد وفاء الناس لمتعة أجسادهم، خصوصا وقد ألبسوا متعتهم ثياب طاعة خاطوها من الدعوة الإسلامية إلى عمارة الأرض. ليلة الجمعة صارت ليلة للجسد، يعقبها يوم عطلة يضمن الاستيقاظ المتأخر بعد الشقاوات الليلية، ويبدأ بإفطار أسري واستحمام ثم التوجه إلى المساجد. ظل الجمعة منذ البعثة المحمدية يوما للطاعة، حتى شهور خلت عندما تحول إلى يوم للعصيان، في تونس ثم مصر، واليمن وها هي سورية تتابع مسيرة أخواتها العربيات في التطلع إلى الحرية بكثافة العصيان يوم الجمعة. يبدأ الخارجون على سلطة العصابة احتجاجاتهم في أي من أيام الأسبوع، لكن الحشد الكبير لا يكون إلا يوم جمعة. في مصر، كان الخامس والعشرون من يناير يوم ثلاثاء، واستمرت المظاهرات يومي الأربعاء والخميس، وكان دور الأيام الثلاثة غير المنكور هو إنهاك عناصر الأمن، لكن الدعوة إلى الحشد الكبير تحدد لها الجمعة. كان الأربعاء والخميس أشبه بوقت المناوشة الاستطلاعية بين جيشين لا يعرف أحدهما الكثير عن الآخر، بينما كانت القيادة على الطرفين قد استعدت بالتعليمات المناسبة لعناصرها. قوى الثورة دعوتها معلنة: الخروج من المساجد الكبرى في جميع المحافظات والكاتدرائية بالعباسية في القاهرة رمزا لوحدة الشعب. والنظام استعد بتعليماته السرية: إخراج كل المخزون من قنابل الغاز وعصي الكهرباء والرصاص الحي وخطباء المساجد! لم يتحقق أمل الخروج من الكاتدرائية؛ لأن الأمن أصدر أوامره إلى الآباء في العاشرة من ليل الخميس بألا يتواجدوا أو يفتحوا الأبواب يوم الجمعة؛ فكان الصمت عن حق الحرية المفروض على آباء الكنيسة أقل بؤسا من شهادة الزور التي انفرضت على معظم خطباء المساجد. صدرت الأوامر إلى الخطباء؛ فكان موضوع الخطبة التذكير بكل تراث الطاعة المنسوب إلى الإسلام، واستنكار الخروج على الحاكم. باستثناء عدد محدود من الخطباء، كانت المواجهة بين خطيب الجمعة والمصلين هي بداية المواجهة بين قوى النظام وقوى الثورة. قنابل الكلام المغيب للعقول سبقت قنابل الغاز بنحو ساعة. بعض الخطباء نفذ الأوامر برفق يحمي رزقه وظهر أن قلبه مع الثورة لكن لسانه مصادر، البعض كان حاسما في تكفير الداعين إلى 'الفوضى' العاصين 'لأولي الأمر منكم'! في تلك الجمعة فقط، عرفت لمَ ارتفعت المنابر في معمار المسجد شيئا فشيئا، حتى صار رأس الخطيب يلامس السقف. خطيب الجمعة أقوى من مقرىء القرآن في المسجد. دكة القراءة لا ترتفع كثيرا عن الأرض، وبوسع المبكرين في الذهاب إلى المسجد أن يعلقوا بالاستحسان على التلاوة، بينما ليس من حقهم أن ينبسوا بحرف إذا ما صعد الخطيب إلى المنبر، لا يحق للمرء حتى أن ينصح جاره بالصمت وإلا فلا جمعة له. سلطة خطيب المسجد أعلى من سلطة أي زعيم ملهم، أعلى سلطة من إله مجنون؛ فذلك الأخير لايرتفع منبره فوق شهود الخطاب بنصف ما يرتفع منبر الجمعة فوق المصلين، ومن حق بل من واجب مستمعي الإله المجنون أن يعلقوا بالاستحسان تصفيقا ومقاطعة بالدعاء الكاذب والمديح السمج ببعض الشعر الحلمنتيشي الذي يناسب مقام المتحدث والسامع. حظيت جمعة الغضب في مصر بآداب الطاعة الشكلانية وأظن أنه المشهد المكرر نفسه فيما لم أر من جمع البلاد العربية الأخرى لم يعلق أي من المصلين على لغو الإمام، بعضهم لم يكن يسمع، البعض يستمع بقهر من لا يستطيع رد إهانة اسم أمه المحبوبة في مواجهة محقق مسعور. التزم الغاضبون الصمت وصلوا وراء خصم أو عدو، وبمجرد التسليم والتقاط كل مصل لنعليه بدأ الهتاف على أعتاب المساجد، وراحت نصائح الألسن الذليلة قبض الريح، ولم تمض سوى خمس ساعات حتى انهار جهاز الأمن بعد أن قتل من قتل من الثائرين وملأ صدور من تبقى بغاز تفوقت رائحته على خبث رائحة كلام الأئمة الأسرى. وستمضي ثورات العرب على دروب الجمعة، غضبا وإصرارا، على الرغم من أن الطليعة في كل الثورات ليست من القوى الدينية التي تتشبث بأفضال يوم الجمعة، لكنها بإلهام إلهي اختارته للقاء مع المناصرين المحتملين، كما أن كونه يوم عطلة يجرد السلطة من ادعاءات تعطيل الإنتاج، وهي الادعاءات التي أتاحت لها تغليظ عقوبات الإضراب عن العمل. لا عمل للشعوب العربية في يوم الجمعة الآن إلا الغضب. ولابد أن الله في عليائه يبارك تحول يوم الطاعة إلى يوم للعصيان؛ فهو لا يغير بقوم إلا إذا غيروا ما بأنفسهم. عزت القمحاوي القدس العربي