نشر الدكتور صفوت عبد الغني مقالا له حول قضية المراجعة والتراجعات في جريدة (المصريون) وهو كلام في الجملة جيد غير ان في بعض نقاطه اجمالا يحتاج إلى تفصيل دعت الحاجة إليه ولذا أشير فقط إلى رأيت ضرورة بيانه فأقول: أن تصوير الدعوة إلى قبول مصالحة أو هدنة تعصم بها دماء المصريين من كل الأطراف ويصان فيها الوطن مما يحيط به من مخاطر اقتصادية وامنية متحققة الوقوع على أنها دعوة للتنازل عن (الثوابت الشرعية والأصول والمبادئ) لهو تصور يخص صاحبه وليس له أصل عند علماء الأصول لأن الأمر اساسا في تكييفه يتعلق بأمر آخر مختلف تماما عن باب الثوابت والقطعيات وهو باب الصلح والمعاهدات في مجال السياسة الشرعية وطبيعة هذا النوع انه اجتهادي والخلاف حوله نسبي يتعلق دائما بالمصلحة والتوقيت والنتائج والموازنات وغير ذلك مما تتفاوت فيه الآراء وتتعدد ولم نسمع يوما أن عالما اعتبر الصلح أو المسالمة أو المعاهدة مع أي طرف حتى ولو مع اليهود نوعا من التنازل عن ثوابت قضيته أو أن للصلح انعكاسا على مبدأ أو موقف عقدي كالولاء وغيره حتى إن الشيخ ابن باز رحمه لم يعتبر الصلح مع اليهود وهم اليهود نوعا من الولاء لهم أو محبتهم واعتبر الصلح من جنس معاملات البيع والشراء والرهن وغير ذلك فقال (الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم، بل ذلك يقتضي الأمن بين الطرفين، وكف بعضهم عن إيذاء البعض الآخر وغير ذلك، كالبيع والشراء، وتبادل السفراء.. ) فهل يمكن لعاقل أن يقول مثلا ان الرسول صلى الله عليه وسلم حينما صالح قريشا في الحديبية تنازل لها عن مبدأ شرعي او سلم لها بأمر من الثوابت؟ مع ما فعله صلى الله عليه وسلم من النزول على رغبتهم في محو كلمة الشرعية السماوية وهي صفة (الرسالة) في كتاب الصلح وقبل بتسليم من أسلم من المسلمين إلى الكفار وغضب الصحابة لذلك ومع هذا لم يعتبر أحد من العلماء ما فعله الرسول صغارا ولا تنازلا عن شيئ من الدين ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ولا موالاة للكافرين وإنما هو ترجيح لمصلحة رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم لدرجة أن قال القاضي عياض: "لا لبس فى ترك وصفه بالنبوة نفيا لها عنه ، ولا فى ترك بعض صفات الله تعالى نفيا لها عنه ، وإنما الذى لا يجوز لو طالبوهم أن يكتب لهم ما لايحل قوله واعتقاده للمسلمين من ذكر آلهتهم وشركهم" وقال الشيخ عبد القادر شيبة: "إن من ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تجاوز عن بعض أصول الدين أو فروعه في الحديبية من ذكر ذلك فهو كاذب مفتري تخشى عليه الردة وإن صلح الحديبية مثبت في كتب الحديث النبوي الصحيحة الثابتة التي لاشك فيها ليس فيها أي شيء وأي لفظ فيه التنازل عن أصول الدين أوفروعه" إن اعتبار (القبول بالأمر الواقع والتسليم بنتائج الانقلاب ) دينا يجب عدم التنازل عنه بل ومن جنس الثوابت والقطعيات ليس له إلا تفسير واحد وهو اعتبار الدكتور صفوت ما حدث من انقلاب حربا على الإسلام والكلام بهذا الوصف فيه نظر لاعتبارات كثيرة من اهمها انه الحفاظ على الدين واجب فعلا حينما يكون الامر متوجها الى الدين ذاته كشرع منزل وليس إلى فهم له او إلى اجتهاد في تنزيله أو إلى مدرسة من مدارسه حتى قال الشاطبي مقالته الشهيرة (أن حفظ الضروريات يكون بأمرين: أحدهما: ما يقيم أصل وجودها على سبيل الابتداء والإبقاء على سبيل الدوام، والثاني: ما يدفع عنها الإخلال الذي يعرض بدفع القواطع أي أن تتم مراعاتها من جانبين: الوجود والعدم) وأتصور أن الانقلاب لم يأت على وجود الإسلام أو يعمل على عدمه نعم قد يقال أنه تم التصدي لفصيل أو لتيار أو حتى لمجمل الجماعات الإسلامية فهي في النهاية اجتهادات لفهم الإسلام ولكن لا يقال أنه تم التصدي للإسلام كدين وشرع منزل فالأزهر أعظم واعرق جامعة اسلامية في العالم ما زال باقيا بكلياته التي تجاوز عددها 77 كلية تدرس أصول الدين والشريعة والفقه والحديث والتفسير بوسطية واعتدال وطلابه يتدافعون للدراسة فيه والمساجد يرتادها الناس ومازالت اذاعة القرآن الكريم تعمل على مدار أربع وعشرين ساعة تبث دروسا في الحديث والتفسير والفقه والاقتصاد يلقيها كبار علماء الأزهر ولأن إطلاق القول بأن ما حدث حرب على الإسلام يؤول إلى تكفير من يتلبس بالمحاربة وإلا فماذا بقي له من حظ الإسلام بعد حربه له؟ كما أنه يمنح الشرعية لكثير من اولئك الشباب الذي قاموا بعمليات قتالية في سيناء والاسماعيلية والدقهلية وغيرها قتلت وأصابت الكثير ممن ليس لهم ناقة ولا جمل واعتبار ما يحدث الآن في مصر معركة الأمة المصيرية التي يجب ان يتنادى الشباب اليها من كل حدب وصوب لتصبح مصر مسرحا لعمليات تنظيمات القاعدة وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات التي تتنادى لنصرة الاسلام بناء على ان النظام في مصر يحارب الاسلام وأن عدم القبول بما تم من انقلاب من الثوابت الشرعية والقطعيات الدينية. جاء أيضا في مقالة الدكتور صفوت (ان الترتيبات الشرعية لمقاصد الشريعة توجب تقديم حفظ الدين وثوابته وأصوله على حفظ النفس والمال ، والنظر فى مصالح الدين تقتضي مقاومة الظلم والاستبداد والفساد وعسكرة الدولة..) والأمر هنا فيه لبس ويحتاج إلى تفصيل لأن ما ذكره الدكتور صفوت من تراتبية المقاصد العظمى في الإسلام صحيح ولكن في حالة واحدة وهي ان يكون الدين والنفس على درجة واحدة من حيث أولوية المراتب الثلاث وهي الضرورية والحاجية والتحسينية بمعنى ان المصالح تتدرج من الضروري الى الحاجي الى التحسيني. فاذا كان حفظ النفس من الضروري وحفظ الدين من التحسيني فيجب هنا تقديم حفظ النفس على الدين ولم يقل أحد من العلماء – فيما نعلم- بتقديم حفظ الدين على حفظ النفس في هذه الحالة ومن ذلك جواز نطق عمار بكلمة الكفر وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم له على ذلك لأن النفس ضرورية والدين هنا حاجي والأمثلة على ذلك كثيرة منها تقديم حفظ نفس المريض والمسافر على حفظ الدين فسمح له بالفطر في رمضان وسمح للمسافر بالقصر والجمع في الصلاة، وسمح للمريض بكشف العورة أمام الطبيب الثقة للعلاج وأكل المضطر للميتة وشربه للمسكر وعليه فنقول أن حفظ النفوس مقدم في الحالة المصرية لأن مصلحة الحفاظ على الدين ليست ضرورية فالدين باق بشعائره ومساجده وجامعاته ومؤسساته والدين كان قبل الجماعات الإسلامية وسيبقى بعدها ومما جاء في كلام الدكتور صفوت ايضا (ان المتراجعين يجب أن يدركوا ان المفسدة العظيمة التي هي أولى بالدفع هي إصرار العسكر على إقصاء الإسلاميين عن تولي السلطة فى البلاد حتى وان مكنهم الشعب من ذلك ، وأن النظر الدقيق في مألات الامور تقتضي عدم تمكين دولة العسكر من حكم البلاد لان تمكين العسكر يضر بقضايا الامة وهويتها ويجعل البلاد تسقط فى التبعية الكاملة لأعداء الامة) ونحن نقول إن المفسدة الحقيقية التي تفوق حكم العسكر ولذلك يجب تفاديها بتحقيق أدناها هي دمار الدولة المصرية وانشقاق جيشها وانقسامه شيعا واحزابا وفقدان الامن الذي سيترتب عليه هتك الاعراض وفقدان الاموال واهتراء هيكلها وذهابها حتى لا تعود هناك دولة ولا مؤسسات أفلا يعد ذلك مفسدة كبرى تفوق تغلب العسكر الى ان يعيد الاسلاميون الكرة بعد استيعاب دروس التجربة؟ لاسيما بعد ان اجمع خبراء السياسة والاقتصاد كافة على ان استمرار هذه المدافعات وبهذه الصورة ستؤثر قطعا في كيان الدولة المصرية وتوهنها وتؤدي الى ضياع الوطن وانحسار ثرواته وضعف اقتصاده وخروج المستثمرين منه وفشل المشاريع وتحوله الى دولة فاشلة كالصومال وسورية ولبنان وغيرها من البلدان التي ما زادتها المدافعات الداخلية الا خبالا ألا تعد هذه مفاسد عظمى تفوق تسلط العسكر؟ الا يشهد الواقع والتاريخ أنه اذا انفرط عقد بلد فلا يعود كما في العراق وسورية والصومال يقول الامام الجويني: «ان المتصدي للامامة اذا عظمت جنايته وكثرت عاديته وفشا احتكامه واهتضامه وبدت فضاحته وتتابعت عثراته وخيف بسببه ضياع البيضة وتبديد دعائم الاسلام ولم نجد من ننصبه للامامة حتى ينتهض لدفعه حسب ما يدفع البغاة فلا نطلق للآحاد في أطراف البلاد ان يثوروا فانهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيدوا وكان ذلك سببا في زيادة المحن واثارة الفتن» ويقول ابن تيمية: «اذا تزاحمت المصالح والمفاسد أو تعارضت المصالح والمفاسد فان الأمر والنهي وان كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له فان كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به بل يكون محرما اذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.