سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
من خصائص الخطاب الدينى.. مراعاة فقه الأولويات «3» على هذا الخطاب مراعاة فقه الأولويات من خلال أدواته ومضمونه والذى يراعى وضع الأحكام والقضايا فى مراتبها الشرعية دون تقديم أو تأخير
نقلا عن اليومى : فقه الأولويات هو معرفة الأمور التى لها حق التقديم على غيرها بناء على العلم بمراتبها، وبالواقع الذى يتطلبها، ويسمى أيضًا بفقه مراتب الأعمال، والذى يُراد به معرفة الأسبقيات فى الأحكام والأعمال وفق المعايير والموازين الشرعية، مما يقتضى معه وضع ترتيب أولويات بتقديم الأصل على الفرع، والفرض على النفل، والأهم على المهم. ولقد راعت الشريعة الإسلامية مصالح العباد من خلال مجموعة من الضروريات تمثلت فى مقاصدها العليا فى حفظ «الدين، النفس، العرض، العقل، المال»، وأيضًا الحاجيات والتحسينيات، فقدمت الضروريات على الحاجيات، والحاجيات على التحسينيات، كما أنها قدمت الخاص على العام إلى غير ذلك من الأمور التى يعرفها أهل الاختصاص، ولقد ضرب النبى صلى الله عليه وسلم المثل الأعظم والذى تجلَّى فيما حدث فى صلح الحديبية حين تنازل صلى الله عليه وسلم فى وثيقة الصلح بكتابة باسمك اللهم بدل البسملة، ومحمد بن عبدالله بدل محمد رسول الله، فاستثمر مدة الهدنة بينه وبين المشركين فى تربية الرجال ونشر الدعوة وإرساء قواعد الدولة. ونحن اليوم إذ نطالب بالتجديد فى الخطاب الدينى، فلا غرو أن ينهل ذلك الخطاب من معين فقه الأولويات، متأسين بما فعله النبى صلى الله عليه وسلم فى المرحلة المكية، ببناء جيل ربانى أخلاقى كان جل اهتمامه فى تلك المرحلة الفارقة هو تحقيق المقاصد العليا لهذا الدين من عبادة لله وتزكية للنفس وعمارة للكون، فقد كان تركيزه صلى الله عليه وسلم منصبًّا على بناء العبد الربانى دون الدعوة إلى القتال فى سبيل الله فى مكة، أو شغل المسلم بالأحكام والمسائل الجزئية، فأعدَّ صلى الله عليه وسلم جيلاً حمل على عاتقه هم الرسالة والدعوة وحفظ الدين حتى وصل إلينا غضا طريا بصورة لافتة للنظر. وإذا كنا بصدد الحديث عن ضرورة تجديد الخطاب الدينى، فعلى هذا الخطاب مراعاة فقه الأولويات من خلال أدواته ومضمونه والذى يراعى وضع الأحكام والقضايا فى مراتبها الشرعية دون تقديم أو تأخير، بحيث لا يؤخر ما حقه التقديم، ولا يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغر الأمر الكبير، ولا يكبر الأمر الصغير، كما أن عليه أيضًا مراعاة فقه الموازنات الذى يوازن بين المصالح بعضها البعض والمفاسد بعضها البعض، أو الموازنة بين المصالح والمفاسد، وأن يصهر هذا فى بوتقة تجمع هذين الفقهين فى علاقة تلازم وتداخل، فكلاهما مرتبط بالآخر، فالموازنات تنتهى دائمًا بالأولويات، وهذا واضح كما ذكرنا آنفًا بما فعله النبى فى الفترة المكية وفى صلح الحديبية، ورحم الله الإمام ابن تيمية حين قال: «الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع». وعندما نذهب ونرى كيف وازن القرآن الكريم بين المصالح بعضها البعض نجد الجواب فى آيتى سورة التوبة فيقول الله تعالى: «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ*الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ»، فقد وازن بين مصالح مشروعة هى سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وبين الإيمان بالله والجهاد فى سبيله، فجعل الله الإيمان والجهاد أعظم درجة وأرفع منزلة، أما حينما وازن بين المفاسد فقال تعالى فى سورة الكهف: «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا»، وفى الموازنة بين المصالح والمفاسد يقول تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا». وفى هذا الخضم الهائل الذى نحن فيه اليوم فى مجتمعنا ومع ما أصابه من ظواهر لم تكن فى العهد الأول يتبادر إلى الذهن تساؤل: هل لنا أن نتأسى بالمرحلة المكية فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم؟ والذى أصبغ فيها خطابه الدعوى بفقه الأولويات، تلك المرحلة التى انصب تركيزه صلى الله عليه وسلم فى بناء العقيدة والدعوة إلى الله والاهتمام بالتنشئة وإعداد جيل قادر على تحمل هموم الدعوة والوصول بها إلى أقطار الأرض كافة، فقد كان أكثر ما يشغله هو ترسيخ العقيدة فى نفوس المسلمين والتحلى بمكارم الأخلاق. وإذا كان الشرع الحنيف قد ألزمنا بل وأمرنا فى مواضع عدة بمراعاة المصالح ودرء المفاسد عن الأمة، فمن الضرورى أن تتجه دفة الخطاب الدينى اليوم إلى هذه القواعد الثمينة وإلى مراعاة فقه الأولويات والموازنات، بحيث إذا حدث تزاحم فى أمر ما قُدِّم خير الخيرين ودفع شرُّ الشرين، بما يعود على الأمة بالنفع والصلاح.