ساستنا العظام صدعوا رؤوسنا بكلماتهم المعسولة التي تصادمها بل وتدمرها سلوكياتهم. فتشدقوا جميعاً؛ خاصة من يعرف نفسه منهم بأنه المحلل السياسي المخضرم؛ فيلهبون آذاننا بأن السياسة هي فن الممكن، وأنها مهارة التعامل مع البدائل، وأنها عبقرية الموازنة بين الخيارات. والإسلامي منهم لا ينسى أن يذكرنا بالقاعدة الأصولية: (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة). وفي الواقع نجدهم جميعاً يتنصلون من نظرياتهم، وتقودهم مصالح شخصية، وأولويات حزبية، فيقدمون المصلحة على المفسدة. ويرتبكون ويربكوننا بل ويربكوا مسيرة ثورتنا؛ بجعجعات فضائية بعيدة عن الواقع. أو كما يقول المثل: (نسمع قعقعة ولا نرى طحناً)!؟. الحبيب صلى الله عليه وسلم ... ومهاراته السياسية: ولو قرأوا المهارات السياسية للحبيب صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يحصد بها ثماراً أعظم بكثير من ثمار غزواته العسكرية. حيث (يمكن تقسيم العهد المدني إلى ثلاث مراحل: 1-مرحلة تأسيس المجتمع الإسلامي، وتمكين الدعوة الإسلامية، وقد أثيرت في هذه المرحلة القلاقل والفتن من الداخل، وزحف فيها الأعداء من الخارج؛ ليستأصلوا شأفة المسلمين، ويقلعوا الدعوة من جذورها. وقد انتهت هذه المرحلة بتغلب المسلمين وسيطرتهم على الموقف مع عقد صلح الحديبية في ذى القعدة سنة ست من الهجرة. 2-مرحلة الصلح مع العدو الأكبر، والفراغ لدعوة ملوك الأرض إلى الإسلام، وللقضاء على أطراف المؤامرات. وقد انتهت هذه المرحلة بفتح مكةالمكرمة في رمضان سنة ثمان من الهجرة. 3-مرحلة استقبال الوفود، ودخول الناس في دين الله أفواجًا. وقد امتدت هذه المرحلة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة.). [الرحيق المختوم: المباركفوري] فنلاحظ أنه صلى الله عليه وسلم بمهاراته السياسية؛ خاصة في مرحلة هدنة الحديبية وبالعمل السياسي الذكي ومكاتبة الملوك ويعاضده بعض الأعمال العسكرية؛ تحولت موازين القوى لصالحه في سنتين فقط!؟. حيث كان أصحاب الشجرة الذين حضروا صلح الحديبية ألف وأربعمائة. وكان عدد المسلمين بحصيلة سنوات البعثة وما قبل الهجرة الثلاثة عشرة والست سنوات الأولى من بعد الهجرة؛ لا يزيد العدد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة؛ ثم صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين فقط عند فتح مكة عشرة آلاف. فهل ستصل ساستنا هذه الرسالة؟!. الغزالي ... وساستنا المغرورين: وإذا كان من أبرز مهارات السياسة هو فقه الموازانات أو الأولويات. وهو ليس فقط مجرد الترجيح بين الشر والخير؛ بل هو فن الترجيح بين بدائل الخيرات وبعضها البعض، أو بين بدائل الشرور وبعضها البعض. لذا فإن ساستنا الأجلاء في حاجة ماسة لمعرفة مغزى هذا التشديد من الإمام الغزالي رحمه الله في (الإحياء) على بعض فرق المغرورين بالعبادة دون مراعاة لمراتب الأعمال. فقال: (وفرقة أخرى حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض, نرى أحدهم يفرح بصلاة الضحى, وبصلاة الليل, وأمثال هذه النوافل, ولا يجد للفريضة لذة, ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت. وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور. بل قد يتعين في الإنسان فرضان: أحدهما يفوت والآخر لا يفوت، أو فضلان أحدهما يضيق وقته والأخر يتسع وقته فإن لم يحفظ الترتيب فيه كان مغروراً). لهذا لما سئل الإمام ابن القيم رحمه الله عن أي العبادات أفضل؟. فرجح أنه لا يوجد فضل بإطلاق, وإنما لكل وقت عبادة تكون هي الأفضل بالنسبة له. فمتى نرى من ساستنا من يفهم هذه الرسالة الخطيرة من إمامينا الغزالي وابن القيم رحمهما الله؟. فلا يكونون من المغرورين؛ فيعرفوا متى يتنازلون عن بعض المكتسبات من أجل الحصول على المكتسبات الأفضل والأدوم. ومتى يتجنبون المخاطر الكبيرة ولو جازفوا ببعض المخاطر الصغيرة؟. هَلْ وَقَعَ ساستنا فِيِ فَخِّ الْقِرْد؟!: وهنا أتذكر قصة عجيبة قرأتها في كتاب (اكتشف نفسك من جديد) أن صيادي القردة في جنوب الهند، يلجأون إلى حيلة ذكية لصناعة فخ القردة؛ فيجمعون ثمرات جوز الهند؛ فيفرغونها ويثقبونها ثقباً معيناً، ثم يضعون داخلها طعاماً لذيذاً تعشقه القردة، بحيث إذا أدخل القرد يده داخل الثمرة لأخذه؛ فإنه لا يستطيع إخراجها؛ فيصطادونه!. لهذا فإن أمامه أحد الطريقين: الأول؛ هو أن يتنازل عن الطعام كلياً أو يكتفي منه بالقليل فينجو. الثاني؛ هو أن يطمع في الطعام كله؛ فلا يستطيع الفكاك؛ فيصطادونه!. وهذا بالضبط هو وضع كل القوى السياسية والأحزاب اللاعبة على مسرحنا السياسي؛ بعدما تكالبت على غنائم الثورة، وغفلت عن استكمال أهدافها؛ فوقعوا جميعاً وأوقعونا؛ بل وأوقعوا ثورتنا في فخ القرد!. وأمامهم الآن؛ إما بعض التنازلات ونجاتهم ونجاتنا جميعاً ونجاة للثورة!. وإما الغرور والطمع القرودي وهلاكهم وهلاكنا جميعاً وهلاك الثورة!؟. د. حمدي شعيب زميل الجمعية الكندية لطب الأطفال (CPS) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية E-Mail: [email protected]