عندما تختلف التيارات الإسلامية فيما بينها فى بعض الممارسات يتعصب الكثيرون من الأتباع كل فى اتجاه، وتتحول النقاشات إلى مصادمات بل صراعات، ومثل ذلك يحدث من قبل الراصدين من الخارج للحركات الإسلامية فيتخذون من تلك الاختلافات الظاهرة ذريعة للانتقاص من كامل الفكرة الإسلامية بل يسعون للنيل من كل من يمثلها. وهذا الأمر ما كان ليحدث إذا وضع أتباع التيارات الإسلامية نصب أعينهم فقه "الثوابت والمتغيرات" فالإسلام بشموليته وعموميته لكل جوانب الحياة، توجد فيه أمور لابد أن تبقى ثابتة لا يصح مخالفتها مهما حدث، ولكن هناك أمور أخرى تستمد طبيعتها من ماهية الواقع. ولأن الواقع متغير كانت هناك أيضا فى الإسلام أمور متغيرة، ولكنها مضبوطة بإطار حاكم من الثوابت الكلية. ولذا كان التعرض لطبيعة تلك الثوابت والمتغيرات أمرا مهما، خاصة فى ظل فقه السياسة الشرعية، لكونها محددا كليا للعلاقة بين الحركات الإسلامية بعضها وبعض، ومحددا أيضا فى فهم الآخرين لطبيعة الممارسات المختلفة من قبل الحركات الإسلامية. أهداف وأصول بداية، يقول د.محمد عبد رب النبى -أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر- إن السياسة الشرعية تعنى حسن التدبير فيما يتعلق بمراعاة مصالح العباد فى المعاش والمعاد، ومن ميزاتها أن لها أصولا ومصادر، بل لها أهداف كلية وجزئية، فأما هدفها الأساس فالعمل على حفظ نظام الأمة ومراعاة مصالحها واستمرارية هذه المصالح التى تعنى حفظ النظام العام واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان، ويتم صلاح الإنسان فى ضوء المقاصد المعروفة حفظ دينه ونفسه وعقله وعرضه ونسله ونسبه وماله، بل أضاف بعض العلماء حفظ حريته وكرامته مع حماية حقوقه. وأضاف عبد رب النبى أن أصول السياسة الشرعية ستة: أولها الشورى، وثانيها تحقيق العدل الشامل، وثالثها حفظ الحريات، ورابعها المساواة، وخامسها الكرامة الإنسانية، وسادسها سؤال أهل الذكر، وهذه الأهداف وتلك الأصول ثوابت لا تتغير. ويضاف إلى ذلك الأخلاق، فهى من الثوابت أيضا كالعدالة والأمانة والصدق والشجاعة، والحكمة، والوفاء بالعهد. وحول اشتراطات وضوابط وسائل تحقيق الشورى ووسائل تحقيق العدل والحرية والكرامة، يقول د.محمد: شرطها أن تكون مناسبة لتحقيق الأهداف والأصول، فمدى جواز الوسيلة أو عدم جوازه هو نفسه مدى تحقيقها للأصول والأهداف التى تهدف إليها السياسة الشرعية. مضيفا أن الاختلاف له طرفان، فقد تختلف الرعية مع الحاكم، فإذا كان ثمة اختلاف بين الحاكم والرعية فى الوسائل فعلى الرعية تقديم النصح، والمشورة شريطة أن تكون متجردة، وأن يكون أمرها ليس عن هوى، وأن تكون الوسيلة محققة للأهداف المنشودة، وأن تكون المصلحة من ورائها عامة وليست خاصة، وأن تكون حقيقية ولا وهمية، وأن تكون مستمرة لا وقتية. ولكن كيف إذا كان الاختلاف أساسا فى تحديد ماهية المصلحة من الأساس؟ يجيب د.محمد قائلا: إن المصلحة دائما لابد أن تصب فى المصلحة العامة للأمة، وليس فى مصلحة فرد أو شخص، فعندما وجد النبى -صلى الله عليه وسلم- أن مصلحة الأمة فى صلح الحديبية وافق عليه، بل تنازل –صلى الله عليه وسلم- عن بعض الأمور من أجل تحقيق المصلحة الآجلة العامة، ودرء المفسدة العاجلة، وذلك رغم اعتراض بعض الصحابة على ذلك فى بداية الأمر، ولذا أحيانا يأتى الاختلاف مع الحاكم لانعدام الرؤية المستقبلية لقلة المعلومات، وإذا حدث هذا، تكون وسيلة ولى الأمر أولى فى التطبيق. وتابع: وإذا كان الخلاف دائرا بين الناس وبعضهم فهناك قاعدة تقول: رأى الإمام يمنع الخلاف، بمعنى أن الأحزاب قد تختلف فيما بينها، وتتعارض آراؤهم، وهنا يكون رأى الإمام أولى؛ ذلك لأن الأمة هى التى اختارته ليراعى مصالحها، وجمهور الشعب ارتضاه ليكون رئيسا عليه، من أجل تحقيق مصالحه، فإذا اختلفت الأحزاب فيما بينها تدخل ولى الأمر، برأيه من باب إحقاق الحق ومراعاة المصلحة العامة للأمة، وهذا واجب عليه. وأضاف: فى كل الأحوال فالعصبية والتعصب فى أمور المعاملات أمر مذموم، فلا يوجد اختلاف أشد من الاختلاف فى الدين والعقيدة، ومع ذلك لم نؤمر بأن نعادى المخالف فى العقيدة من أجل ذلك الاختلاف الدينى، بل أُمرنا أن نتعاون معه، حتى إن النبى –صلى الله عليه وسلم– قال: "والذى نفسى بيده لقد شهدت فى الجاهلية حلفا -يعنى حلف الفضول- أما لو دعيت إليه اليوم لأجبت..."، فالخلاف العقدى لا يمنع من التعاون الإنسانى، ولكن المعاداة فقط تكون لمن يبادر هو بالعداء. الالتزام بالشورى والعدل من جانبه، يقول د. أبو اليزيد العجمى -أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة-: ثوابت الحكم فى الإسلام تقوم على العدل، والشورى، وهذان ثابتان، لا يتغيران، والحاكم المسلم يبذل كل جهده لتحقيقهما، وأيضا هناك الثوابت التى هى من العقيدة، فيجب أن يكون الحاكم حريصا على نصرة الإسلام ونشر العقيدة، وحماية الشعائر، والأخلاق الإسلامية. أما المتغيرات فهى ما يدخل تحت باب الاجتهاد أو الوسائل. وحول كيفية تطبيق ذلك بين الحركات الإسلامية، يجيب أبو اليزيد: إن جميع الحركات الإسلامية يجب أن تكون ملتزمة بالشورى داخلها، وملتزمة بنصرة الشورى خارجها، ومحافظة على تحقيق العدالة فيما بينها داخل الحركة الواحدة، ثم فى نصرة من يحقق العدالة فى الأمة من جهة أخرى. ولكن الأمر لا يخلو بين الحركات وبعضها من أمور مختلف عليها، تدخل فى باب الاجتهاد الذى يسعه الحوار، فإذا كان الأمر محل الخلاف متعلقا بنص قطعى الثبوت قطعى الدلالة، فهذا أمر لا اجتهاد فيه، فلا اجتهاد مع نص. وأردف قائلا: لم يحدث أن رأينا أن حركتين إسلاميتين اختلفتا على ذلك، لكن الخلاف يأتى فى الفروع؛ لأن الأمر هنا يخضع لنصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة، فإذا أتت حركة من الحركات وفهمت آية أو حديثا بمعنى لا يخالف مقاصد الشريعة ولا يخالف مصلحة الأمة فهذا من حقها، ومن حقها على غيرها ألا ينازعها فى هذا الفهم، ولكن له فقط أن يناقشها ويحاورها، لأنه أمر اجتهادى يحتمل الصواب أو الخطأ. أما المشكلات بين الحركات الإسلامية فغالبا ما تأتى ممن لم يترب على الحوار أو الاجتهاد أو قبول الرأى الآخر. كما يأتى التعصب عند الأتباع أكثر؛ ذلك لأن نسبة العلم عندهم أقل منها عند المشايخ أو المؤسسيين. وأضاف أبو اليزيد: على سبيل المثال، وبعد سقوط الخلافة الإسلامية تكونت فى مصر الجمعية الشرعية، وجماعة الإخوان المسلمين، وجماعة أنصار السنة، وكل هؤلاء مع اختلافهم فيما بينهم فى بعض الأشياء، لكن لم يصل بينهم الأمر إلى حد قطع الصلات أو العداوة، بل إن الإمام حسن البنا كان صديقا للشيخ "محمود السبكى" مؤسس الجمعية الشرعية، وكان كلاهما صديقا للشيخ "محمد حامد الفقى" أول رئيس لجماعة أنصار السنة بمصر. المصلحة والمفسدة من جهته، يقول د. مدحت ماهر-المدير التنفيذى لمركز الحضارة للدراسات السياسية- إن الثوابت عادة ما تكون قليلة الكم، لكنها كبيرة التأثير، فمن الممكن أن نحصى الثوابت عددا، أما المتغيرات فلا يسعها حصر، فعلى رأس الثوابت الإسلامية قضية العقيدة، وما يتفرع عنها فى السياسة الشرعية من معنى "الهوية" للدولة والمجتمع، وهى مهمة مثلا عند الإجابة عن سؤال من نحن، بوصفنا مسلمين ومصريين وعربا. وأضاف ماهر: ويلى ذلك ارتباطا بالعقيدة أيضا قضية "المرجعية" العامة، فهى أيضا بها ثوابت متفق عليها بين الحركات الإسلامية، هذا وإن اختلف بعد ذلك الممارسون فى كيفية ربط كل ثابت بالواقع وآليات تكيفه وتطبيقه، وهذه غالبا ما تكون رؤى وآراء اجتهادية، ونعت الآراء بالاجتهادية يختلف عن وصفها بالاختلافات السياسية، فالأولى تعنى أن الاختلاف يكمن فى زوايا النظر للأمور، وليس حول المواقع والمناصب فى السلطة أو الحياة السياسية. يأتى متصلا بذلك فى عالم السياسية كأحد الثوابت المهمة، قضية القيم العليا، فالسياسة فى الرؤية الإسلامية مبنية على القيم، وهذا أمر ثابت يُجمع عليه أيضا كافة الحركات الإسلامية، وإن اختلفوا فى طريقة تطبيق تلك القيم وتفعيلها، خاصة حين الرغبة فى الموازنة بين القيم والمصالح العامة إذا حدث تعارض مثلا، واضطررنا كما فى تعبير العلماء إلى "الترجيح" بين القيم. كما حدث بعد صلح الحديبية من رفض النبى -صلى الله عليه وسلم- لمن جاءه من مكة مسلما، وذلك وفاء بالعهد مع قريش، حيث رجّح هنا النبى -صلى الله عليه وسلم- لقيمة الوفاء بالعهد، محل قيمة نصرة المسلم بطريقة مباشرة، وهنا لم تهدر القيمة فى ذاتها، ولكن حلت محلها قيمة أخرى، ولذا ففى المثال السابق فُتح المجال لهؤلاء المسلمين بطرق سياسية أخرى. وقواعد الترجيح موجودة فى علم أصول الفقه، ومعها قواعد بناء الأولويات، وفقه الموازنات. ويأتى على رأس تلك القيم أيضا فى العمل السياسى، العدالة، وهى قيمة عليا كلية، وهى التى يتأسس عليها مفاهيم المواطنة، والعلاقة بين السلطات، والعلاقة بين الدولة والمجتمع، وهذه القيمة لصيقة الصلة بمعنى التوازن، وهو أهم ما يميز الرؤية الإسلامية فى العمل السياسى، فليست الرؤية الإسلامية مثلا مع الفردية المطلقة، وليست مع الجماعية المطلقة، ولكنها رؤية تقوم على الجمع بين الأشياء، فى إطار العدل والتوازن. يضيف: أما الاختلافات بين الحركات الإسلامية فتأتى أولا: فى فهم هذه الثوابت، وثانيا: فيما هو من طبيعته الاختلاف وهو ما نعنيه بالمتغيرات، وتبدأ بما يسمى بناء "السياسة العامة"، وهو أمر يقوم على قاعدة شرعية مهمة وهى تقدير المصالح والمفاسد، وهى قاعدة ترتبط بطريقة فهم وتكييف الواقع لأنه فى الأساس لا يثبت على حال، ولذا فرؤية وفهم هذا الواقع يختلفان بين الناس جميعا وليس بين الحركات الإسلامية وحدها، فمن الناس من هو أكثر استيعابا للواقع، ومنهم من هو أقل استيعابا، ومنهم من يملك رؤى كلية، وآخر لا يملك سوى رؤية جزئية. وأردف ماهر: ومن ثم فصورة الواقع فى أذهان الأفراد بل فى أذهان التيارات، صورة مختلفة، وبناء عليها تبنى سياسات عامة مختلفة أيضا. ولذا فهذا شأن يسهل فيه الأخذ والرد، ويسهل معه التعايش والتفاهم، وينبغى للحاكم أن يدير هذا الاختلاف بحيث يصنع منه ائتلافا؛ ذلك لأن الرؤية الإسلامية فى الأساس ليست صراعية، فدائما ما تحاول أن تجعل من الاختلاف اختلاف تنوع، وتكامل، وليس اختلاف تضاد وتفاصل ونزاع. وأضاف: لكن المهم فى تلك المتغيرات والذى لا يجعلها ذات سيولة وميوعة أن ثابت الدين متغلغل فيها جميعها، فلا يُفهم أن يُحيّد الدين، أو حتى أن يكون ثانيا أو ثالثا.. كما أن المتغيرات عامة الأصل فيها عدم التناحر وإنما التناصح. ولابد هنا من ملاحظة أن كافة تلك الأمور ليصح تقديرها، لابد فيها من توافر حسن النية، فالنية الصالحة من الثوابت، ومن ثم لا يتحول معها أبدا الرأى إلى صراع، أو إلى خصومة. وردا على سؤال: وماذا نقول إذا وصف البعض تلك المتغيرات، بالميكافيلية- الغاية تبرر الوسيلة- كما فى الرؤية الغربية؟ يجيب ماهر: أن بعض المستشرقين قد قرأ أفعال النبى -صلى الله عليه وسلم- فى الأمور المتغيرة باعتبارها ميكافيلية، ولكن الحقيقة أنه عندما تكون قاعدتى هى القرآن والسنة، سنخرج من أسر فكرة الميكافيلية كما يرونها فى الغرب، إلى فكرة المصلحة أو المفسدة كما نفهمها من الشرع. فالفارق بين الميكافيلى والبرجماتى -النفعى- الذى يقول إنه يسير بحسب المصلحة أو المفسدة، وبين الإسلامى الذى يقول أيضا إنه يتبع المصلحة أو المفسدة، الفارق بينهما يكمن فى المرجعية، فالدين ثابت، والمسلم لا يقدر المفسدة أو المصلحة على هواه، وكما يحلو له، فحتى إذا أشبه ذلك فى الشكل الظاهرى الميكافيلى والبرجماتى، لكنه فى الحقيقة يتبع المصلحة الشرعية ويدرأ المفسدة التى يقول عنها الشرع إنها كذلك، فنحن لدينا تقدير إنسانى للمصالح والمفاسد ولكنه مستند إلى فهم ما أنزل الله.