نشأ الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش فى قرية البروة فى الجليل الغربى، التى دمرتها القوات الإسرائيلية عام 1948، ولجأت عائلته إلى لبنان، ثم عاد افردها إلى فلسطين ليصبحوا «حاضرين غائبين»، أى فلسطينيين بقوا فى أراضيهم لكنهم فقدوا حق الملكية. وقد شكلت هذه التجربة جزءاً كبيراً من هويته وشعره، حيث كان يُعرف بأنه أحد شعراء المقاومة الفلسطينية، وعلى الرغم من مغادرته لفلسطين فى عام 1970 إلا أن ارتباطه بعرب 48 ظل قوياً. فقد كان يعتبر نفسه جزءاً من هذه الفئة التى رفضت الهوية الإسرائيلية وحملت هويتها الفلسطينية. ورغم الرحيل فى أغسطس عام 2008، لا يزال الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش حاضراً فى القلوب، بتجربته الشعرية والإنسانية والوطنية، وفى ذكرى رحيله فى أغسطس، أصدر «كتاب اليوم» الذى يصدر عن مؤسسة أخبار اليوم برئاسة تحرير الكاتب الصحفى ياسر عبد الحافظ، طبعة جديدة من كتاب «محمود درويش.. وطن فى شاعر» للدكتورة عزة بدر، التى تقدم فيه رصداً دقيقًا لمسيرته الشعرية التى حملت بُعدًا إنسانيًا عميقًا لقضية فلسطين، وتصويره للحياة الصعبة والمعاناة التى يعيشها سكان غزة وصمودهم وتحملهم رغم الحصار والظروف القاسية، ومناداته المستمرة برفض الاحتلال والظلم. فى تقديمها للطبعة الجديدة من «محمود درويش وطن فى شاعر»، الذى صدر بغلاف انيق من تصميم الفنان طارق عبد العزيز، كتبت د. عزة بدر: «فى هذا الكتاب قطعة من روحى، أتأملها فى الضوء كل يوم، أقول لنفسى: ها هو الشعر يصبح رمزاً لوطن، وللشعر الجمعى، ها هو الشاعر يمسك عشبة الخلود بكلتا يديه، ويزرعها فى أرض الكلمات». «أنا ابن النيل» يحكى الكتاب رحلة الشاعر الكبير إلى القاهرة وإقامته بها بين عامين 1971، 1972، وعن هذه الفترة يقول الشاعر: «الدخول إلى القاهرة كان من أهم الأحداث فى حياتى الشخصية، فى القاهرة ترسخ خروجى من فلسطين وعدم عودتى إليها، ولم يكن القرار سهلا، كنت أصحو من النوم وكأننى غير متأكد من مكان وجودى، أفتح الشباك وعندما أرى النيل أتأكد من أننى فى القاهرة، خامرتنى هواجس ووساوس كثيرة، لكننى فتنت بكونى فى مدينة عربية، أسماء شوارعها عربية، والناس يتكلمون فيها بالعربية، وأكثر من ذلك وجدت نفسى أسكن النصوص الأدبية التى كنت أقرؤها وأعجب بها فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريبا، والأدب المصرى، التقيت بهؤلاء الكتاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدهم من آبائى الروحيين، ولكن من سوء حظى أننى لم ألتق طه حسين وكان فى وسعى أن التقى به، ولم يحصل اللقاء، وكذلك أم كلثوم لم ألتق بها وحسرتى الكبرى أننى لم ألتق هذه المطربة الكبيرة، والتقيت كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم، والتقيت محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، وفى القاهرة صادقت الشعراء الذين أحبهم: صلاح عبد الصبور وحجازى وأمل دنقل»، ويصف الشاعر نفسه بابن النيل فى قصيدة جميلة بديوانه «لا تعتذر عما فعلت» وهى بعنوان «فى مصر»: « فى مصر، لا تتشابه الساعات/ كل دقيقة ذكرى تجددها طيور النيل/ كنت هناك، كان الكائن البشرى يبتكر الإله/ الشمس/ لا أحد يسمى نفسه أحداً/ أنا ابن النيل/ هذا الاسم يكفينى ومنذ اللحظة الأولى تُسمى/ نفسك «ابن النيل» كى تتجنب العدم/ الثقيل»، كما تأثر «درويش» بالفراعنة بشكل واضح فى العديد من قصائده، حيث استخدم رموزًا وأساطير من الحضارة المصرية القديمة للتعبير عن قضايا وطنه فلسطين ومعاناته. ما يستحق الحياة ترصد د. عزة بدر، التجربة الشعرية العريضة لمحمود درويش من دواوينه الأولى إلى دواوينه الأخيرة، وتؤكد أن رحلة درويش الشعرية تؤدى بنا إلى بيته السراب والحقيقة، ذاك الذى كان فى قريته «البِروة»، وصار بين يوم وليلة أثراً بعد عين، فقد احتل الإسرائيليون القرية عام 1948 وتغير اسمها فصار «أحيهود»، كما تحول جزء من القرية إلى كيبوتز ويسمى «يسعور»، لقد طاف شاعرنا العالم فلم يجد بيتاً يشبه بيته فى قرية «البِروة»، كان حلمه أن يعود إليها، ورفضت إسرائيل عودته حياً وميتاً، ولكن شاعر القضية الفلسطينية لم يزل يُسْمع صوته إلى أنحاء الأرض.