هل يمكن بالفعل مقايضة الحرية بالأمن ، أو الديمقراطية بالاستقرار ، وهل هناك تناقض بين الاثنين فعلا ، بمعنى أن الأمن والاستقرار لا يمكن تحققهما إلا على حساب الحريات العامة والكرامة الإنسانية واحترام الجوهر الديمقراطي ، بمعنى آخر ، هل يتوجب علينا أن نضحي بالحرية من أجل الحصول على الأمن ، أو نضحي بالديمقراطية من أجل الحصول على الاستقرار ، بوجه ثالث ، هل الديمقراطية تضر بالاستقرار وهل الحرية تزعزع الأمن ، مع الأسف هذه قناعة تعمل على تسويقها جميع أجهزة إعلام أي نظام استبدادي في الشرق أو الجنوب ، لا يوجد طاغية مستبد إلا ويكون محور حديثه عن الأمن والأمان والاستقرار أولا ، وأخيرا ، فهل حقيقي يوجد هذا التناقض بين القيمتين ، بطبيعة الحال يمكنك أن تكشف هزال هذه الفرضية وزيفها بالاستدلال بتجارب عشرات الدول الديمقراطية في الغرب أو أمريكا الشمالية أو الجنوبية ، حيث ترفل في نعمة الأمن والأمان والاستقرار في ظل الديمقراطية والحريات العامة واحترام كرامة الإنسان ، أي أن افتراض التناقض هو تضليلي بكل المقاييس ، ورغبة من النظم المستبدة للتغطية على شهوة الاستبداد واختطاف الناس بالخوف والفزع والإحساس بالخطر والفوضى ، لأن الاستبداد عادة ما يواجه بمقاومة أو تحدي أو رفض أو غضب أو حتى احتجاج سلبي ، ولكنه في الغالب الأعم يتشكل في نضال سياسي تحاول به قوى جديدة انتزاع مساحات للحرية والكرامة والتداول السلمي للسلطة ، خاصة في ظل رياح عالمية الآن عززت أشواق الناس للحرية والديمقراطية وجعلت من العالم قرية كونية واحدة ، وبطبيعة الحال فإن هذه الدعوات تمثل كابوسا للسلطة المستبدة ، فتتصدى بكل ما تملك من أدوات قمع أو ترويض أو احتواء لمثل هذه الدعوات ، وغالبا ما يتمخض عنها توترات في احتجاجات الشوارع والميادين وغير ذلك ، وقد تتحول إلى أعمال عنف على نطاق ضيق كما حدث في مصر وبلدان أخرى في الثمانينات ، أو على نطاق واسع وشديد الدموية كما حدث في الجزائر ، وقد تتحول إلى ثورات مسلحة شاملة كما حدث في ليبيا وفي سوريا . الملاحظ هنا أن هذا الاستقطاب المفتعل يتم تسويقه حاليا في مصر ، فمنذ وقوع مذبحة الحرس الجمهوري والمنصة ثم المذبحة الكبرى في رابعة العدوية وما تلاها ، وهناك انتشار وتزايد للاحتجاجات الشعبية الواسعة والتي يسقط من جرائها ضحايا ، قتلى وجرحى ، ومعتقلين ، ويتعمق إحساس الناس بالقلق وأن البلاد ليست في حال استقرار وأن المستقبل غامض ، والسلطة تمتلكها بالغريزة شهوة القمع والعنف القاسي ضد المعارضين ، وتبحث عن مبررات الاستباحة ، فيطرح إعلامها الخطاب الشيطاني : الأمن أهم من الحرية ، والاستقرار أهم من الديمقراطية ، وأن البلاد تحتاج إلى قبضة حديدية وإلى أيادي أمنية غير مرتعشة ، أي تقتل بكل جرأة وسهولة أيا كانت التكاليف ، دون أن يطرح في أي مستوى للعقل أو المنطق أن سبب غياب الأمن والاستقرار في جوهره هو هذا القمع نفسه وهذه الاستباحة وسياسات السلطة القائمة بالفعل ، وفشلها في إدارة شؤون الدولة ، ورغبتها في قمع المعارضة ومنع أي صوت مخالف وتعبيد البلاد بالقوة والتجبر للفرعون الجديد ، وقد لاحظت أن الرئيس المؤقت عدلي منصور عندما قال كلمته المطولة في القمة العربية الأخيرة بالكويت ، كان معظم كلامه عن الاستقرار والأمن والأمية والاقتصاد ، ولم يجر على لسانه أبدا أي حديث عن الحرية وكرامة البشر أو الديمقراطية أو شيء مما يتعلق بالربيع العربي ، رغم أن الدستور الذي صدق عليه هو نفسه كرئيس ، يتغزل في ثورة يناير ، ولكنه فيما يبدو من باب النفاق السياسي وابتلاع الحجر لتمرير الوضع ثم لكل حادث حديث ، أيضا المشير السيسي في كلمته التي أعلن فيها ترشحه للرئاسة ، لم يجر على لسان اهتماما يذكر بقضايا الحريات أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو الثورة وأهدافها وأشواقها أو نحو ذلك ، وإنما كان حديثه منصبا على هواجس الأمن والاستقرار والخوف والفوضى . غياب الأمن والاستقرار تختلف أسبابه ومظاهره وأيضا علاجاته من مجتمع لغيره ، حسب الطبيعة الاجتماعية والموازين السياسية وطبيعة نظم الحكم ، وفي مصر يمكن التأكيد بوجه القطع أن غياب الأمن والاستقرار الحالي كان سببه الأساس هو إسقاط الديمقراطية وقطع الطريق عليها وإهدار الحريات العامة وكرامة البشر والاستهانة بالدماء والتضحيات ، وبالتالي فإن المنطق العملي يقتضي القول بأن استعادة الأمن والاستقرار مرتهن بإعادة البلاد إلى مسارها الديمقراطي الصحيح وإنهاء حالة الاستباحة الأمنية والقمع المروع وتحقيق الشفافية القضائية الكاملة وإجراء المصالحة السياسية الشاملة وتحمل ثمنها سياسيا وأخلاقيا ، وأما المضي قدما في مسارات القمع والاستباحة وتحطيم قواعد الديمقراطية ومحاولة كسر شوكة غضب ملايين المواطنين بالقوة ، فهذا هو الطريق المضمون إلى مشوار طويل لسنوات مقبلة من غياب الأمن والاستقرار في البلاد .