اختلفت الأصوات برومو النهايات التراجيدية الذي تعرضه قناة الجزيرة في ثوان معدودة يلخص مسيرات في الحكم تتراوح بين الثلاثين والأربعين عاماً. يمكنك أن تجرب مرة الاستماع من دون النظر إلى الشاشة ومرة المشاهدة من دون صوت. في الحالتين ستجد الرسالة كاملة غير منقوصة. صوت زين العابدين بن علي ينتفض بذعر لص ضُبط متلبساً، سرق ابن علي القصر من بورقيبة وظل حتى النهاية غير مقتنع بجدارته بسكناه، ثم سرقت زوجته البلد كله من التونسيين، ابتلعت أفعى البوا فيلا واختنقت به. صوت مبارك ونبرته لم يختلفا في لحظة الأزمة عنهما في خطاب عيد الفطر أو عيد النصر. الصوت الآلي الرتيب لا يترك أثراً للبس في التلقي. هنا حاكم آلت إليه البلاد بالصدفة لم يعرف قدرها ولم يعرف أهمية حكمها ولكنه جلس على سرير الحكم كأن قوة ما وضعته وخدرته ليبقى هناك بلا ميزة له أو للبلاد التي ظلت في قبضته بتكاسل شعبها عن طرده وتكاسله هو عن الرحيل. صوت على عبد الله صالح يبدو خلطة من الثقة والعصبية. صوت مقامر محترف يتنقل بطاولته القابلة للطي من ناصية إلى ناصية، اعتاد التغرير بالعابرين، ودائماً ما يكسب الهواة الذين يقعون في حبائله ويبتلعون هزيمتهم ويمضون بلا جدل، لأنه محروس بأفراد عصابته العائلية المندسين بين الجهور لتفريق الفضوليين وتخويف من يعترض على النتيجة. لكنه، رغم كل التحصينات، يظل صوته حاملاً لذلك الظل الخفيف من القلق، تحسباً لظهور مقامر محترف آخر آخر يكسبه. الشتائم الانفعالية والصراخ يجعلان القذافي تمثيلاً لشخصية في فيلم كرتون عن ديكتاتور جعل من بلده مجرد شائعة. واختلفت الصور الصور كذلك تفضح. ووحدها ترسم السمات دون حاجة إلى صور. زين العابدين يبدو مخطوف اللون مهزوزاً، يكاد يجري من أمام الكاميرا، خوفه يتعملق إلى درجة إخفاء الخلفية، المنصة الصغيرة وميكروفون وحيد كل ما تبقى له من القصر الذي لم يكن أبداً له. مبارك يبدو ثابتاً كميت تحت الماكياج الذي يعده الكهنة قبل عرض الجثة على العامة. مثله مثل ابن علي وحيد أمام الأورمة الخشبية، لا شيء آخر غير العلم وشعار تنتظم كلماته في دائرة عملاقة تذكر كيف ضاعت 'جمهورية مصر العربية' في الدوران داخل دائرة من الكذب المنفصل عن الواقع، الستارة الزرقاء حيرت المراقبين، هل هي خلفية غرفة عادية في القصر، هل هي خلفية ستديو بالقصر أم بالتليفزيون؟ أياً كان الأمر؛ فهي ستارة عادية ليس لها الق إضافي يميزها عن ستارة غرفة مواطن فقير، لا تبرر أبداً تكالبه على الحكم، فقط تحاكي بلونها الغامق سواد أيامه. علي عبد الله صالح على العكس من النصبين البشريين ابن علي ومبارك. علي لم تزل عيناه تلمعان بالأمل، وكأنه يترقب عابراً آخر يقنعه بالمقامرة، لم يعد وحيداً بعد على الناصية لكنه يخطب ويصول ويجول أمام برلمانه، آخر جمهور محجوز للمقامرة القادمة، وعلى عكس الرئيسين الرسميين حد الموت في البدلة وربطة العنق، يتخفف الرئيس علي كشاب كاجوال، إن لم يكن لديه أمل في الإيقاع بشعب؛ فعلى الأقل لم يفقد الأمل في الإيقاع بامرأة. الإله الغامض، هو جائزة الجمهور الكبرى. دوره وقت السلم ووقت الثورة، كانت نمرته فاكهة مؤتمرات القمة، وأحست الجزيرة حب الجمهور لأدائه الفانتازي ذلك فجعلته سهرة رأس السنة في أكثر من عام. لا يمكن التكهن بخلفية المكان الذي يتحدث منه القذافي، بعكس رفاقه الذين لم يأتوا مثله من البادية، من الخيمة، لكن غياب الخلفية لا يدع للمشاهد إحساساً بأي نقص في الصورة. الرجل يفرط في الحركة، يفرط في الأزياء، بينما الحفر بوجهه الناتجة عن عمليات الشد والتجميل توحي بوعورة طريق ثورة قامت ضد هكذا بهلوان. حركات القذافي غير مترابطة، وكأنها لقطات خام لن تتحول إلى فيلم إلا بعد أن تتولاها يد مونتير قدير تعيد ترتيب اللقطات لتؤدي إلى شيء ما يمكن فهمه عن إله ذاهل عن الكاميرا والميكروفون، يصطخب جسده بحركات هيستيرية وتتهدل أطراف أزيائه المفبركة خصيصاً لكي تنتشر ويعيد جمعها لإسعاد جمهور مخلص للرجل الوطواط. القذافي لا يشغل عينيه بجرذان أو ثوار الأرض. ينظر نحو السماء، العرش الذي يليق بإله غاضب سيأوي إليه بعد أن يشمل شخصيات الفيلم بلعنته. والروح واحدة: تختلف الأصوات والصور، والروح واحدة. سجانو الحياة يمشون على ذات الدرب خطوة خطوة. يمنون على شعوبهم بقهرها. جميعهم لم يطلبوا سلطة أو جاهاً، فقط نسوا أن يمشوا، نسوا أن يكبروا (الشعر فاحم في الثمانين) وسيظلون في نسيانهم يعمهون. لا يحبون الحكم ولا يتركونه. يبدأون بذم الشرزمة والقلة المندسة، يستخرجون من خزائن أصغر خدمهم بعض رزم الأوراق المالية، ومن أقرب قسم شرطة بعض البنادق تستعرضها الكاميرا بكسل في إشارة إلى مؤامرة وأجندة أجنبية. ولا يعنيهم الدم الطاهر في شيء. لا أحد منهم يعتذر عن الدم المراق، لا أحد يعزي الأمهات، الغرير الصغير منهم يجد الوقت للضحك والتنكيت السمج. في مرحلة تالية يتم الاعتراف بصدق الغضب ومحليته، ثم يبدأ تقديم تنازلات يعرضها الديكتاتور بإباء وشمم لتبدو تفضلاً، دون أن يراود أحدهم التفكير في الرحيل عن سلطة يسمونها 'خدمة للشعب'! وفي اللحظة الأخيرة، يعرض الديكتاتور المحاصر العفو عن بحر البشر الذي يحاصره. من يعفو عن من؟! لا يسمع الوحش المخدر السؤال الساخر ولا يشعر بنفسه لحظة الغرق؛ إذ يرتفع المد حتى تضرب موجة الغضب سماء البلاد. الديكتاتور، بخلاف الثوري، لا يستلهم من أحد، لكن حكمة الغباء واحدة، هي خصيصة داخل الجهاز Pelt in'' تتطابق فيها كل الأنظمة العربية مثلما تتطابق الآلات الخارجة من مصنع واحد، من دون أن تدرك القطعة تشابهها مع غيرها. ما رأيكم بالمؤامرة؟ يمضي الديكتاتور الذي أفنى حياته في سبيل إفناء الشعب. ويكتشف الثوار أنه لم يكن سوى الرأس الأبرز من بين ملايين الرؤوس لتنين شرس. يتوارى الرأس الساقط ولا يكاد الثوار يفرحون حتى تفاجئهم محاولات التنين للالتفاف عليهم مجدداً، وهم لا يعرفون ما الأصلح للثورة: ان يعودوا إلى دق الرأس الأول، أم الانتقال للتحدي التالي. هذه الحيرة لدى الثوار، لا نعرف إن كانت ماكينات القسوة تعانيها. لم نستجوب أحد الساقطين لمعرفة رأيه فيما جرى، هل اكتشف جريمته أم لا يزال يرى فيما حدث مؤامرة خارجية؟ مؤامرة عافتها الكاميرا بنادق المؤامرة في درعا لم تقنع عين الكاميرا، عدد كبير من البنادق الآلية يستلقي في سلام. لا تضمر البندقية الشر ولا تعرف أنها في تلك اللحظة تشهد الزور. رزم الليرة السورية مهترئة مهدلة الأطراف كالإنسان المقهور، ولكنها مفرودة عنوة ومقيدة كمصلوب يملي عليه جلاده الكلام. لا تتمتع أموال التنظيم المزعوم في درعا بألق وتكبر الأموال القادمة من الخارج، بل تبدو لطخات التلوث واضحة فيها كما لو كانت حصيلة بيع البندورة أو الذرة المسلوقة في نهاية يوم من الكدح لبائع جوال، ولذلك لم تستطع الأموال أن تقنع أحداً بوجود مؤامرة. عافت الكاميرا ربطات العملة المجهدة مثلما يعاف الرمةَ أسدٌ حقيقي.