لاذت الصغيرة كعادتها بالأركان منكمشة علي نفسها لتتقي شر سهام الكلمات الحارقة التي يتبادلها أبيها و أمها في تلك المشاجرات التي لا تنتهي ، كانت ترتعش وتطلب من الله أن ينتهي فزعها بأي شكل ، سرعان ما انتهت المشاجرات تماما بعد طلاق أمها و إن كانت سحب التعاسة قد ازدادت كثافتها علي بيتها الكئيب . كانت تستغرب عندما تمشي في الشارع وتري أسرة سعيدة متحابة تسير في هدوء ، فقد تزوج كلا من أبيها و أمها وصارت تتنقل بين بيتيهما ولم تحصل إلا علي المزيد من المتاعب التي تختلف في شكلها و أسبابها وتتفق في جوهرها الذي وعته جيدا أنها ابنة لأسرة مفككة . اجتهدت في دراستها ورضيت بالمتاح من بقايا الحنان في أسرتها وفجأة شعرت باقتراب الفرج ، هاهي قد كبرت وصارت عروسا جميلة كما تقول لها العيون وتؤكده مرآتها التي لا تعرف الكذب ، لم يبقي إلا أن تعثر علي زوج ابن حلال تقيم معه أسعد أسرة وتنجب طفلة تذيقها حلاوة السعادة الأسرية ونعمة الأمان والاستقرار . سيطر عليها حلمها ورسم ابتسامة أمل علي ملامحها الرقيقة ولذلك استجابت فورا لمشاعر ابن الجيران وقالت له في براءة : متي ستتقدم لأبي لتخطبني منه ؟ لكن الولد راوغها كثيرا ولما زاد إلحاحها تنصل منها هاربا ، فانكسر حلمها في الحب والبيت السعيد بسرعة وسقطت فريسة انهيار عصبي . عرفت الفتاة طريق الطبيب النفسي وكانت تنام بالمهدئات ولكن عجل بشفائها شبابها وحيويتها ونعمة النسيان التي تنزل علي قلوب المساكين في ليالي الوحدة ، أنهت دراستها وعملت بالتدريس ، في عملها قابلته كان مدرسا شابا متدينا كما تنبئ بذلك لحيته الخفيفة وعلامة الصلاة في جبهته ، كما أنه ليس مثل الآخرين لا تفوح منه رائحة السجائر ولا يعرف المزاح الثقيل ولا تمتد عيناه وراء كل امرأة ، بل رائحته تفوح مسكا وكلامه يبعث الطمأنينة في قلبها . تعلقت به وسألته عن أشياء كثيرة تخصها مثل طريقة ملبسها وسلوكها وكان السؤال يبدأ دائما بالحلال والحرام ثم يمتد حبل الكلام ليغطي مساحات صحراوية جرداء في وجدانها ، كانت كلماته والمعاني المستترة خلفها تنثر وراءها حدائق من البهجة والياسمين ، كانت تنفذ فورا نصائحه تدريجيا تغيرت وعرفت طريق الندوات الدينية وحلقات التحفيظ و أسماء المشايخ ، مسحت الأغاني في تليفونها وسجلت مقاطع دينية وأناشيد محببة ، كانت تحب أن تنطق اسمه أحيانا بلا سبب وكأنها بذلك قد امتلكت جزءا منه و صار لها وحدها ، صحيح كل الناس تناديه ولكن اسمه يخرج من قلبها . جاءها يوما بوجه مختلف ليقول لقد استخرت ثم استشرت أخا أثق به فقال أنك لست الفتاة المناسبة ولذلك فإني أعتذر لن أقابل والدك ومشروعنا قد انتهي بالفشل ، عاد الصداع والانهيار وعادت لتتمدد أمام الطبيب ، وبعد أن تعافت بصعوبة فترت عزيمتها أمام كل باب كان هو سببا فيه ووجدت نفسها تنكص علي عقبيها عائدة لا تدري إلي أين ؟
أحيانا تلتبس علينا الأمور فنفكر بطريقة ( زبون المطعم ) الذي من حقه أن يطلب ما يشاء مادام يدفع الثمن ، لقد دفعت التزاما وطاعة و أعجبها هذا الشاب ومن المفروض أن يتم الزواج ويتحقق حلم البيت السعيد الذي عشش في جوانحها ، فإذا لم يتحقق ما أرادت فليكن الاعتراض بكل طريقة انهيار وبكاء وتراجع فيما بدأته . لا يا ابنتي أنت بذلك تضاعفين الخسائر ولا تستفيدين مما تحقق لك من خير وهداية ، نحن مهما كنا ومهما فعلنا نخضع تماما للمشيئة الإلهية ثم نرضي بها ، لأن فيها الخير علي المدي الطويل ، ذلك الخير الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب ، لعل ارتباطك بهذا الشاب غير موفق وليس فيه خيرا ولذلك صرفه الله عنك ، ولعل فيما حدث اختبارا لنيتك هل هي خالصة لله أم من أجل شخص أيا كان . كثيرا ما أسمع من تقول ( هذه المحنة بالذات لم تكن في خطتي ولم أكن مستعدة لها ) نحن لا نفرض خططنا فلسنا سادة بل عبيدا و إماءا خاضعين ساجدين ومهما كانت المحنة نقول ما قاله نبي الله إسماعيل عندما وضع رقبته تحت نصل السكين متحملا أمر الله ( ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) والذي حدث بعد هذا اليقين والتسليم هو الفرج والفداء والتكريم والمثل الأعلي الذي يرفرف أبد الدهر بين جنبات الدنيا ، اخضعي للمشيئة يا ابنتي وسلمي أمرك لله وارضي بحكمه ولا تحاولي أن تستعملي غيرك عكازا تستندين إليه أو تصور لك سذاجتك أنه ملاكا بشريا سوف يحملك علي جناحه ليدخلك جنة الدنيا ثم جنة الآخرة . امشي وحدك في طريق الهداية والطاعة حتي تقوي ساقيك وتنتصب قامتك وفي الوقت المقدر والمناسب سوف تلتقين بمن يسكن إليه قلبك ونفسك وترتبطين به و أنت قوية لاتحتاجين طبيبا ولا عكازا ، وقد عرفت جيدا ماهو طريق القوة . [email protected]