جمال سلطان لم أفهم سرا لهذا الهوس الذي تثيره أجهزة وأقلام متصلة بالسلطة من مسألة استقبال قضاة مصر الشرفاء لبعض الزوار في ناديهم ، وخاصة ممثلين عن منظمات حقوقية دولية ، فمنذ الإعلان عن هذه الزيارة وهناك حالة توتر وهلع في أروقة السلطة منها ، وحملة تحاول وصف ما سوف يحدث بأنه خيانة واستعانة بالأجانب للتدخل في شؤون الوطن ، ولو صح أنها استعانة فعلا بالأجانب لكان الاتهام الأول يوجه إلى السلطة وأجهزتها ومؤسساتها التي سدت كل الطرق أمام أبنائها ومواطنيها وأبرز هيئاتها ، وهي القضاء ، وتلاعبت بمطالبهم البديهية التي لا تتعدى تحقيق ما من شأنه استقلال القضاء لضمان حقوق المواطن أولا ، ولقد سبق وهدد بعض القضاة بأن إغلاق كل الأبواب أمامهم والتحريض والمؤامرات التي تحاك بهم من قبل بعض الأجهزة والمؤسسات ستكون عواقبه وخيمة ، ولكن أحدا لم يعبأ بالكلام ، زيارة وفد المنظمة الحقوقية لنادي القضاة أمر طبيعي ، لأن أي دولة اليوم لا تعيش بمعزل عن العالم والمصالح المتقاطعة ، إن كثيرا من علاقات الدول الآن وخاصة ما يتصل بالشأن القانوني والحقوقي تتصل مباشرة بوضع القضاء فيها ، وحتى طلب الحكومة المصرية ذاتها استعادة محكومين أو نحو ذلك لا يتم إلا إذا كان قد صدر من جهات قضائية لها استقلالية واحترام وقبول حقوقي دولي ، فمن الطبيعي أن تنزعج مؤسسات دولية ومنظمات حقوقية من توالي شكاوى قضاة مصر من الحصار وغياب الاستقلالية والضغوط الحكومية المتتالية للتدخل في شؤونهم ، وفي يقيني أن المؤتمر الصحفي الذي عقده رئيس مجلس القضاء الأعلى الموالي للسلطة أمس في دار القضاء العالي ليهاجم فيه زملاءه القضاة ويصفهم بتسييس القضاء هو جزء من حملة حكومية رسمية تحاول وقف هذه الخطوة الشجاعة ، كما أنه اتهامه للمنظمة الحقوقية الأمريكية بأن شكلها أمريكي وقلبها صهيوني هو كلام هازل ولا يليق أبدا بمنطق القاضي وحياديته ، وإذا كان رئيس مجلس القضاء الحكومي ينحى باللائمة على زملائه أنهم يشتغلون بالسياسة فما معنى كلامه في المؤتمر الصحفي أمس بأنهم يريدون حقوق إنسان على طريقة جوانتانامو وأبو غريب ، ما هذا الكلام المضطرب والمثير للشفقة ، ثم الأهم ، هل هذا كلام في القضاء أم في السياسة ، إن هذا المؤتمر وما قيل فيه بمثابة برهان جديد على صدق موقف القضاة الشرفاء وسلامة اختيارهم ، إن قضاة مصر أشرف من أن يمسهم أحد بطرف كلمة ، عن وطنيتهم وولائهم وانتمائهم لهذا الوطن ومصالحه ، بل إنهم يصارعون الكثير من العنت والمكر والضغوط ويضحون بمصالحهم الشخصية والأسرية ومستقبلهم الوظيفي والاجتماعي من أجل صالح هذا الوطن ومستقبل أجياله ، ومن أجل ضمان الحق والعدل والخير لأبنائه ، فمن هو هذا الذي يمكنه أن يمس طرف ثوب أحدهم بكلمة ، إنهم هم المؤتمنون الآن على مصر ، وهم آخر حصون الوطن التي تتعلق بها أحلام المستضعفين والباحثين عن العدل والكرامة في بلادنا ، وعندما يقررون عرض قضيتهم العادلة ، بل قضية مصر كلها ، على المحافل الدولية والمؤسسات المحترمة ، فهذا حقهم ، بل واجبهم ، وعلى الجميع احترام رسالتهم ، وعلى كل من يتاجر بالحديث عن كرامة مصر واستقلال مصر أن يعرف قدر نفسه ، فالمعركة الآن بوضوح ليست متعلقة أبدا بالاستقلال الوطني ، وإنما متعلقة بمعركة الحسم بين أنصار الحرية والعدالة والكرامة وبين سدنة القمع والظلم والاستباحة ، وكل محاولات صرف الانتباه عن جوهر المعركة هذا ، مجرد دجل وتضليل . [email protected]