حينما تدخل وزارة كالتموين أو الإعلام، أو الاسكان، أو الزراعة أو الصناعة، أو الإعلام أو المالية، ستفاجأ بأن وكلاء الوزارة والمديرين الكبار لواءات شرطة سابقين (!!)، وستجد المحافظ ونائبه والسكرتير العام والسكرتير العام المساعد من لواءات الشرطة السابقين، وكذا رئيس الحى أو المدينة، ورؤساء مجالس إدارة الشركات، والمجالس المحلية فى المدن والقرى، كلهم من السادة لواءات الشرطة السابقين، فأكثر من نصف قيادات الجهاز الإدارى بالدولة من رجال الشرطة السابقين، فلا يكفيهم ما اقترفوه طوال مدة خدمتهم فى جهاز سىء السمعة من ظلم وإجرام، ولكن يكملون ما تبقى من عمرهم فى التنكيل بأفراد الشعب، فى كافة مرافق وأجهزة الدولة. ولا أعرف وكذا لايعرف الكل ما علاقة ضابط شرطة قضى عمره فى الأقسام يتعامل مع معتادى الإجرام ويصاحب نخبة منهم، ويطارد الشرفاء وينكل بهم، ماهى خبراته وإمكانياته لأن يصبح مسئولا فى وزارة كالإعلام، أو الزراعة، أو التموين، أو الجامعات ومراكز البحث، حتى هيئة مترو الأنفاق أغلب قياداتها لواءات شرطة سابقين. يخرجون بعدما حققوا ثروات ومكاسب على كافة الأصعدة، بمكافأة نهاية خدمة سخية للغاية، ومعاش محترم، ولا يكتفون بذلك بل ينحشروا ويتغلغلوا داخل كل مؤسسات الدولة، بمرتبات ومزايا غير عادية، لبسط هيمنة الجهاز البوليسى على كافة قطاعات الدولة. هم كأمراء المماليك، الذين كانوا يعيثوا فى أرض مصر والشام الفساد، يستحلون أملاك الغير، وينتهكون الحرمات، ويدنسون المقدسات، والويل والثبور لكل من يفكر مجرد تفكير أن يتصدى لهم. ماذا يعنى لواء شرطة؟ إنه يعنى الكثير والكثير، أولها حصانة ضد أى مساءلة، وسلطان ونفوذ متوحشان لا حدود لهما، وتمتد هذه المزايا والصلاحيات بعد خروجه من الخدمة ولا تنتهى بوفاته، وبالطبع لابد أن يكون ابنائه قد التحقوا بالجهاز الأمنى لتكملة مسيرة السيد الوالد، فخلفه يواصل المسيرة، لأن أكثر من 70% من ضباط الشرطة أبناء ضباط، وهناك حصة لأبناء رجال القضاء، مقابل حصة لهم فى النيابة العامة، تتحدد بالاتفاق، بمعنى أن يدخل مائة من ابناء ضباط الشرطة لسلك القضاء (وأغلبهم خريجو شرطة)، مقابل مائة من أبناء رجال القضاء يلتحقون بالشرطة، وتتبقى حصة لذوى المال والنفوذ، من أصحاب أعمال وشركات، وهم مطلوبون أيضا لتسهيل مصالح أخرى. أصبح الأمن هو الذى يحكم مصر منذ عدة عقود، وأصبح رجاله مجرد عائلات وأسر، فهناك ضباط كبار كل أولادهم ضباط، مثلا اسماعيل الشاعر له ثلاثة أبناء، أى ثلاثة أشقاء، وبعد عدة أعوام ستكون عائلة الشاعر تهيمن على جزء كبير من جهاز الأمن، ومثله كثيرون كثيرون. وما يثير الدهشة أن نسبة ملحوظة منهم نراهم وقد اصبحوا "دكاترة" فى غمضة عين، كيف حصل على الدكتوراة، ومن أين ومتى؟ لا نعرف، المهم أنه أصبح "دكتورا" وجاهز لشغل منصب رفيع بعد خروجه من الخدمة، يتولى رئاسة سنترال ممكن، يصبح مديرا عاما لجامعة أو كلية ممكن، يصبح مسئولا فى الجهاز المركزى للمحاسبات أو للتعبئة والإحصاء أو غيرهم من الأجهزة الكثيرة، وقد يتولى رئاسة مصلحة الضرائب، أو مصلحة الطب الشرعى. هناك لوبى من اللواءات السابقين متغلل فى كل الأجهزة، ويحكم كل شىء فى البلد، ويدهم مطلقة فى فعل كل مايريدون، لمصالحهم الخاصة، أو لصالح الجهاز الى ينتمون إليه. تعرفت على "لواء" سابق وهو يشغل مركزا رفيعا فى منظومة كبرى، ووجدت أنه بالكاد يقرأ عناوين صحيفة أو اثنين، ولا يعرف أى شىء عن أى شىء، وذهلت حينما وجدته عضوا بمجلس الشعب، فهو لا يعرف أصلا ماهى وظيفة هذا المجلس الذى دخله من خلال الحزب "الواطى الديكتاتورى"، وذات يوم وجدته يسألنى: هو الدستور ده اللى هو إيه يا بو صلاح (!!!) وتصورت أنه يمزح، لكنى فعلا اكتشفت أن الرجل عضو السلطة التشريعية التى تسن قوانين البلد لا يعرف ما هو الدستور، فقلت له ضاحكا (وباكيا فى نفس الوقت) هو حاجة زى كتاب المطالعة .. كلام فاضى، فقال: إمال ولاد ...... (لفظ قبيح جدا) عاملين دوشة كل يوم ليه وبيقولوا تعديل الدستور، طيب ما يعدلوه هو حد منعهم، واستطرد قائلا: مش كدا ولا لا إيه؟ كلام مظبوط ده ؟؟ فقلت له وأنا أكاد ألطم خداى طبعا مظبوط يا باشا .. مظبوط جدا جدا. هذا الباشا كان يسافر كل أسبوع إلى دولة من خلال المجلس فى مأموريات المفروض أنها رسمية، لكنه كان يقول بنسافر ونتفسح إحنا خسرانين حاجة، وذات مرة وجدته يقول لى: المجلس اختارنى فى اللجنة اللى ها تزور القوميسه (!!) فقلت له: تزور ايه؟؟ قال: القوميسه، فعدت أستوضح منه: هى فى بلد اسمها القومسه؟؟، فقال يعنى ها تعرف أكتر منهم؟ أنا بس عايز منك شوية معلومات عن القومسه دى، فمنظمة السوق المشتركة لدول شرق وجنوب افريقيا التى تعرف ب "الكوميسا" كان لها اجتماع على مستوى اللجان فى جيبوتى، واختارت مثل هذا ليتكلم فى مسائل التعاون الاقتصادى بين دول جنوب وشرق القارة، ومثل هؤلاء هم الذين كانوا مطلوبين من النظام الفاسد، فعلى مر التاريخ نجد أن الحكام الطغاة يعمدون إلى تهميش أصحاب الكفاءات وإذلالهم، ورفع الجهلاء وإحاطتهم بالرعاية، فدولة من الجهلاء يستطيع الطاغية العيش فيها، لكن دولة العلم تكون بيئة قاتلة للديكتاتور، وهو ما حدث لديكتاتور مصر المخلوع، فلم يفطن إلى تغير الزمان وإلى مستجدات العصر، وظل يحكم بنفس رؤية زمن الأربعينات والخمسينات، فكان مثل "شيخ خفر" يحكم جنرالات. هؤلاء اللواءات هم دولة داخل الدولة، ولهم نفوذ لا يستهان به، وأحكى هنا قصة أقرب إلى الخيال، رواها لى زميل صحفى بمؤسسة قومية كبرى، بل وأحد المندوبين القدامى للجريدة بوزارة الداخلية، ووتتلخص الواقعة فى أن أحد اقاربه كان له قطعة أرض فضاء فى موقع متميز بمدينة نصر، وقيمتها لا تقل عن عشرة ملايين جنيه، ذهب عندها ذات يوم وجد عليها يافطة تقول بأن الأرض ملك اللواء فلان الفلانى، ووجد عددا من البلطجية يقيمون عليها، وأشهروا فى وجهه الأسلحة النارية والبيضاء، فاستنجد بقريبه هذا الذى يتصل بكبار مسئولى الداخلية، وعلم أن اسم اللواء الذى وضع اسمه على الأرض هو "سابق" وكان بدرجة مساعد وزير، وأنه معروف عنه قصة استيلائه على الأراضى الفضاء بهذه الطريقة، ولما وصلت اتصالات صديقى إلى طريق مسدود قام بصحبة قريبه صاحب الأرض بتحرير محضر فى قسم أول مدينة نصر، لإثبات حالة التعدى، وفى نفس الليلة تم القبض عليه هو وقريبه، ووجد أنه منسوب إليه هذه التهم: انتحال صفة ضابط شرطة، حيازة سلاح نارى بدون ترخيص، التعدى على رجال الشرطة أثناء أدائهم لعملهم ... إلخ، ووجد أن كل شىء مثبوت بالأدلة والشهود!. وكان مخيرا بين خيارين: الدخول فى مفاوضات إذعان، أو إحالة المحضر إلى النيابة العامة، للقضاء على مستقبله، فوافق على أن يتفاوض، ووجد أن من يفاوضه ليس اللواء السابق المعتدى على الأرض، بل ذهبوا به للواء مازال فى الخدمة، وكان يشغل منصبا كبيرا جدا، (وحتى الآن لازال فى الخدمة وبدرجة مساعد وزير) وقال له بكل صراحة: ممكن قريبك ياخد نص مليون جنيه ويخرج من القصة دى، وقبل أن يفيق صديقى من ذهوله واصل اللواء (الكبير) : وممكن نضغط على اللواء (.....) ونجيب كمان 100 ألف، ودخل الحوار بعد ذلك فى تشعبات معقدة، انتهت بأن أخذ "اللواءات" الأرض بدون مليم واحد، وهمس أحد الشرفاء فى أذن صديق: ابعد واسكت، دى مافيا، وما يعملوش كدا إلا إذا كانوا واخدين الضوء الأخضر من فوق، يعنى من الوزير نفسه (ملحوظة: صديقى موجود ومعه كل الإثباتات). هكذا كان يدير اللواءات مصر، وينهبونها، ويفرضون الإتاوات على كل الشركات والمحال والمنشآت السياحية والأفران، حتى سائقى الميكروباص وأصحاب محطات البنزين، والمقاهى والملاهى وأصحاب الشقق المشبوهة، بخلاف المكافآت التى تأتيهم من كل مؤسسات ومرافق الدولة، فالجامعة تدفع لهم الملايين من ميزانية البحث العلمى، والكهرباء تدفع لهم، والإتصالات، وكل الوزارات بلا استثناء تدفع مقررات مالية ثابتة لرجال الأمن، بخلاف ما يتحصلون عليه من الداخلية من بدلات تأتيهم من المرور والجوازات ومصلحة الأحوال المدنية، وغيرهم، من تلك الرسوم التى تفرض بلا قانون على المتعاملين مع هذه المؤسسات، ويجبيها رجال الداخلية ويقسموها على انفسهم، كل حسب وضعه ودرجة قرابته بالكبار، ورغم أن هذه الأموال تجبى بلا أى سند قانونى، فإنها توزع بمنأى عن قواعد العدالة،ويقول لى صديق بدرجة عقيد، أن هناك لواءات يصل دخلهم الشهرى 600 ألف جنيه، وآخرين دخلهم لا يصل خمسة ألاف جنيه. مطلوب تفكيك دولة اللواءات وإقصائهم نهائيا عن الجهاز الإدارى للدولة، وترك هذه المراكز لمن يستحقونها، ومطلوب التحقيق معهم بمعرفة جهاز الكسب غير المشروع، وفورا قبل أن يقوموا بغسيل هذه الأموال، أو التصرف فيها بأوراق صورية. [email protected]