قبل أن يطرح البعض السؤال المتوقع عن الدول العربية المرشحة لتكرار السيناريو التونسي والمصري، كانت "ألغام الغضب" تنفجر في كل من اليمن وليبيا والبحرين، في حين شهدت الجزائر مناوشات محدودة، استبقتها السلطات بسلسلة إجراءات سياسية واقتصادية لتنفيس الغضب المكتوم، من أبرزها إلغاء حالة الطوارئ، وسارعت دول أخرى للإعلان عن قرارات اقتصادية لدعم الفئات الفقيرة، كما في سوريا والمغرب، أو إصلاحات سياسية، على غرار الأردن والإمارات. المشهد اليمني كان الأكثر اشتعالًا، رغم أن الرئيس علي عبد الله صالح سارع قبل أسابيع للإعلان عن أنه "لا توريث ولا تمديد"، وأنه سيغادر الحكم بانتهاء فترته الحالية عام 2013، ليضع بذلك نهاية لنحو ثلث قرن قضاها في الحكم، كما رضخ صالح لمطالب المعارضة بتأجيل الانتخابات البرلمانية، وفتح حوار حول صيغة جديدة لقانون الانتخابات. هذه الخطوات لاقت قبولًا من تحالف أحزاب "اللقاء المشترك" المعارض، إلا أنه كان لافتًا انتقال "عصا القيادة" في الاحتجاجات إلى شباب غير مسيس، غاضب على المشهد السياسي بأكمله، ويرفع نفس شعارات أقرانه في مصر: "ارحل.. ارحل"، وهو ما قابله الحزب الحكم بدفع أنصاره للنزول إلى الشارع، كي لا يحتله المعارضون بمفردهم، الأمر الذي تسبب في اندلاع اشتباكات متكررة بين الجانبين، لكن عزم المحتجين ما زال قويًا، بل إن احتجاجاتهم تتمدد وتشدد وتيرتها يومًا بعد آخر. خيار الفوضى وكما كان الحال في مصر، لا يملك المتظاهرون إجابة محددة عن البديل المفترض إذا ما أطيح بصالح، كما أنهم لا ينشغلون كثيرًا بالتحذيرات من أن البلاد قد تقع في "أوحال الفوضى" إذا ما تكرر سيناريو القاهرة، فالدولة اليمنية لا تملك قوة وهيمنة نظيرتها المصرية، كما أن المجتمع اليمني يفتقد لتماسك ووحدة المجتمع المصري، فضلًا عن انتشار الأسلحة بمختلف أنواعها وأوزانها، مما يجعل من بعض القبائل دولة داخل الدولة. ويفاقم من صعوبة الوضع وجود تمرد طائفي للحوثيين في الشمال، وتمرد سياسي يطالب بانفصال الجنوب، وتيار عنف يتزعمه تنظيم القاعدة، الذي نقل مقر قيادته من السعودية إلى اليمن، مستغلًا حالة الفوضى المتفشية هناك، وأمام كل ذلك يقف الجيش اليمني عاجزًا ومشتتًا، ولا يمكن التعويل عليه كثيرًا لتكرار الدور الذي لعبه جيشَا مصر وتونس، وهو ما يجعل خيار الانقلاب العسكري على صالح هو الأقرب للتوقع والأقل كلفة، ذلك إذا ما شعر قادة الجيش أن البلاد مقدمة على السقوط في "مستنقع الفوضى". القذافي يتوعد ومع أن المشهد الليبي أقل توترًا من نظيره اليمني، إلا أن القبضة القمعية لنظام العقيد القذافي وإغلاقه لكل منافذ التعبير عن الرأي، يجعل من ليبيا "دولة مجهولة"، فلا توجد معلومات أو معطيات يمكن التوقع على أساسها، وإن فقط تخمينات بناء على ما يتم تسريبه عبر الانترنت. وقد استبق القذافي سقوط النظام المصري بعقد لقاء مع بعض النخب الفكرية والثقافية، حذرهم خلاله من "فيس بوك"، وتوعد بالانتقام من قبائلهم إذا ما نظموا أي احتجاجات مناوئة، لكن ذلك لم يمنع من انفجار شرارة الغضب في مدينة بنغازي، المشهورة بمزاجها الشعبي المعارض للقذافي، الذي دفع ببعض أنصاره إلى الشارع كي يستبق أي تحرك احتجاجي، ونجح هؤلاء في طرد المحتجين بعد وصفهم بالعملاء والخونة. وما زال القذافي يكرر حديثه عن أن الشعب الليبي يمارس الحكم بنفسه، وأنه لن ينقلب على نفسه، لكن على ما يبدو لم يعد هذا الخطاب ينطلي على أحد، فالأوضاع البائسة للشعب الليبي، رغم ثروته النفطية الهائلة، تؤجج الغضب الكامن في النفوس، خاصة أن السنوات الأخيرة شهدت محاولات إصلاحية لنجل القذافي "سيف الإسلام"، لكن الدائرة المحيطة بالأب، والتي تؤكد تقارير عدة ضلوعها في الفساد ونهب مقدرات الشعب، أحبطت هذه المحاولات، وهو ما دفع الابن مؤخرًا لإعلان اعتزال العمل السياسي، والاكتفاء بنشاطه الخيري. انقلاب قصر هذا الانسحاب لا يعدو أن يكون تحركًا تكتيكيًا للضغط على الأب كي يتحرك ضد حاشيته، إلا أن القذافي ما زال يبدي تشبثًا شرسًا لإبقاء كافة مقاليد الأمور في يده، ولذا فإن البعض لا يستبعد "انقلاب قصر" يطيح بالقذافي وينصب ابنه "سيف الإسلام" بدلًا منه، خاصة أن الأخير تبنى في السنوات الأخيرة مبادرات إصلاحية حقيقية، أثمرت عن تسوية ملف المعتقلين الإسلاميين وإعلان الجماعة الليبية المقاتلة عن نبذ العنف، كما أن المؤسسة الإعلامية التابعة له تبنّت خطابًا نقديًا قويًا ضد الفساد، وهو ما عرضها مرارًا للتضييق والإغلاق. ويعزز من هذا السيناريو أن "سيف الإسلام" يحظى بدعم نخب ثقافية وفكرية واسعة في ليبيا أو بين المنفيين بالخارج، كما أنه وجه مقبول من الغرب، حيث تولى الوساطة لتسوية الملفات العالقة، ونجح في ترتيب عدة لقاءات بين والده وقادة غربيين، كما أنه يتبنى نهجًا اقتصاديًا ليبراليًا، وهو ما يثير شهية الشركات الغربية لالتهام نصيب معتبر من كعكة النفط ومشروعات البنية التحتية الضخمة في ليبيا، التي عانت لسنوات طويلة من حصار أضر ببنيتها التحتية وأعاق تطوير صناعتها النفطية. توتر دائم أما بالنسبة للبحرين، فرغم أن أوضاعها الاقتصادية ومساحة الحريات أفضل بكثير من ليبيا واليمن، إلا أن وجود كتلة شيعية ضخمة تعيش في ظل حكم ملكي سني، يجعل البلاد دومًا معرضة للانفجار، خاصة أنه على الضفة الأخرى من الخليج توجد إيران، الدولة الشيعية الوحيدة بالعالم، والخاضعة لنظام حكم ديني طائفي لا يخفي مشروعه لتصدير نموذجه للدول المجاورة، كما أن العراق الذي شكل حائطًا مانعًا للتمدد الإيراني بات هو الآخر محكومًا بيد حلفاء طهران من شيعة العراق. ومع أن العرش البحريني حافظ دومًا على مساحة تفصله عن أي إجراءات حكومية تبدو قمعية بحق الشيعة، معتبرًا نفسه "أبًا للجميع"، إلا أن التغيرات التي شهدها العراق عقب الاحتلال الأمريكي رفعت من طموحات المواطنين الشيعة، مما زاد توتر الوضع الداخلي، الأمر الذي دفع السلطات لتنظيم انتخابات نزيهة، بحيث يتم التعبير عن تلك الطموحات بشكل شرعي وداخل الأطر الرسمية للدولة، إلا أن الأوضاع ما زالت تتأرجح ما بين الهدوء الحذِر والصدام العنيف، وإن كان الجميع يحرص على إبقاء اللعبة داخل حدودها الآمنة، لأن الانفجار لن يكون في صالح أحد. حدود الغضب وسعى ملك البحرين لاحتواء المصادمات التي وقعت مؤخرًا بين الأمن ومتظاهرين شيعية، من خلال إدانة عنف الشرطة وتقديم التعازي لأسر الضحايا، كما قدم وزير الداخلية اعتذارًا رسميًا عن المصادمات، وسبق ذلك الإعلان عن توزيع مكرمة ملكية قدرها ألف دينار لكل أسرة، يضاف لذلك أن المعارضة الشيعية تؤكد ولاءها للملك، وأنها تطالب بإصلاحات سياسية تحت سقفه، إلا أن المظاهرات الأخيرة شهدت لافتات ترفع نفس الشعار الذي تردد في مصر وتونس وهو: "الشعب يريد إسقاط النظام"، بينما اكتفى البعض بلافتات أقل حدة تقول: "الشعب يريد إصلاح النظام". وإذا كانت الدول الثلاث السابقة هي الأكثر عرضة للتوتر بعد الزلزال المصري، إلا أن جميع الدول العربية ليست بمنأى عن تكرار المشهد ذاته، لأن "وهم" الاستقرار الذي روجت له بعض الأنظمة العربية قد سقط، سواء بفعل التقنيات المتطورة التي أسقطت حواجز وقيود القبضة الأمنية، أو لأن الطبقة المتوسطة وجيل الشباب المتعلم لم يعد يقبل بالوقوف مستكينًا في "قوائم الانتظار"، وبات يصرخ بشدة مطالبًا بحقه في إدارة شئون بلاده، متطلعًا إلى واقع ومستقبل أفضل، بعيدًا عن جبال الفساد والفوضى والمحسوبية، التي وضعت معظم الدول العربية في ذيل قوائم الشفافية والتقدم. المصدر: الاسلام اليوم