منذ أكثر من عقدين من الزمان حضرت محاضرة في نقابة الصحفيين للزعيم الوطني فتحي رضوان رحمه الله وكانت عن خطورة وسائل الإعلام علي صنع البطل سواء أكان بطلا حقيقيا أم مزيفا. وبدأ المحاضرة بتعريف الإعلام بأنه إخبار وأن الجملة الخبرية عند أهل المنطق تحتمل الصدق والكذب، وعلق بأن الإعلام التابع للسلطة السياسية في بلادنا في أغلبه لا يحتمل إلا الكذب حتى في صفحة الوفيات. فقد يكون هناك إملاء حكومي بالإعلان عن وفاة فرد لم يكن قد توفي والعكس، كما أن الحشد الهائل من أقرباء المتوفى ملئ بالكذب فيقال قريب فلان المدير في السكة الحديد مثلا وهو في الحقيقة عامل دريسة، فكل من يرد ذكرهم وزراء ومدراء ومسئولين كبار فلا مكان للمسكين والغلبان بينهم في مثل هذا المحفل المزيف. والإعلاميون الحكوميون في بلادنا هم أبواق السلطان من حملة المباخر المسبحين بحمده والمنظرون لعبقريته والمطبلاتية ومهياصين الطبل وكدابين الزفة، أو قل هم صناع فرعون. وقد يضطر أحدهم إلي تذكير الناس بأن وسائل الإعلام الحكومية هي ملك للشعب من محصلة الضرائب والمكوس التي فرضت علي الناس أينما ولوا وجوههم، ومع هذا لا يوجد أي نصيب لأصحاب هذه الوسائل الحقيقيين . بل إن الأمر يحمل بوضوح نبرة التحدي للملاك الحقيقيين حين تعلم أن رئيس تحرير صحيفة حكومية كبيرة يتقاضى قرابة مليونين من الجنيهات شهريا وكل مؤهلاته لمنصبه تنحصر في قدرته علي التزييف والنفاق. كما أنه لا يفتح أي باب للغلابة الملاك في طرح قضاياهم فيما يملكون إلا من باب الزركشة في بريد جريدته لتعينه علي ادعاء أي قيمة وهي في الحقيقة بتوصية من آخر يتبادل معه المصالح. وشاء قدري يوما أن تعرفت علي أحد هؤلاء واقتربت منه لبعض الوقت لأجد نفسي مصدقا لمقولة من يقسم أنهم يؤجرون من يكتب لهم مقالاتهم بعد أن تأكدت من سطحية فكرهم إلا من قدرة علي التلاعب بعناوين وقدرة علي توظيفها وشاء الله لي أن أعيش حتى أري ثورة شعبية سيقف عندها التاريخ وتلمست حيرة هذا المنافق وهو يبحث عن معبد جديد له بعد انهيار اللات والعزي، أو يختفي دون حساب ليفسح المجال لجيل جديد ممن تعلموا منه فن التلفيق والتزييف والنفاق ، فالساحة مليئة بحملة المباخر وأرباع المتعلمين وجامعي أعقاب الثقافات أو سبرسجية العلم . ولم يكتف هذا النموذج بما كان يتقاضاه من ملايين من أموال الفقراء ملاك صحيفته بل جعل من هذه الصحيفة مرتعا لأصدقائه وأقربائه وبلدياته من كوادر الإعلام ليشغلوا عنده مناصب مفتعلة مقابل مبالغ طائلة مع أنهم يعملون في أماكن أخري وليس لديهم وقت أو جهد يعطوه، وهؤلاء بادلوه بفتح الباب لأقربائه وذويه في وظائف لديهم وبمرتبات هائلة بعد أن أصبح العرف السائد شيلني وشيلك . ولأن الثورة المصرية قد فتحت أبواب الحرية المسئولة فلا ينبغي أن نقف عند حد إبعاد هذه الكوادر من ساحة التغيير بل ينبغي إخضاعهم وذويهم للحساب واسترداد أموال الشعب فهم أكثر خطورة من المفسدين لأنهم صانعوا المفسدين والمضليين . وهناك غيرهم من المتلونين الذين تكونت ثقافتهم علي مقاس حقبة الدكتاتورية الناصرية وأعجبهم انفرادهم بالساحة الإعلامية والثقافية، ثم تحولوا بقدرة قادر إلي المطالبة بالديمقراطية بعد تحجرهم عند حتمية الحل الاشتراكي، ثم تلونوا بلون جديد بعد أن فتحت لهم السلطة صحيفة مغمورة قاصرة علي العاصمة لا يعرفها أحد، وانزوت معلوماتهم في زاوية التاريخ الذي لم يؤهلوا له إلا بقدر تفسيراتهم الضيقة، وفتحوا أبواب جريدتهم لأصدقاء شيوعيين قدامي شاركوهم مراحل التلون والتغير، وشيلني وشيلك . أما عن التليفزيون فحدث ولا حرج فأغلب من فيه يحتاج إلي واسطة قوية أو موافقة أمنية ثم متابعة ومراقبة، وأعجبني أحد شباب ثورة يناير حين سعت مذيعة في القناة المصرية الأولي بإلحاح أن تتحدث إليه في أعقاب تنحي الرئيس فرد عليها بقوله أن الإعلام له وقفة ستأتي بعد استقرار الأوضاع وأن المنافقين من المذيعات والمتكبرات منهن علي غير موضع من تكبر لن يخيل عليه وعلي زملائه سعيهن للتحول والتلون ، ولم يقبل منها تبرير إملاءات السلطة عليها . ومع ذلك جاءت مذيعتان بعد ذلك مباشرة علي نفس القناة لتعلق بكلام ملؤه النفاق الذي لم يتعلموا غيره، وبدت ملامح التخفي من الخزي خلف مساحيق زادت عما اعتادوه، ثم حركت كلتاهما قصة الشعر وتمايلتا فوق الكرسي المتحرك كالعادة في مظهر استفزازي للملاك الحقيقيين وهم الشعب وبشكل يستوجب المسارعة بالتطهير والحساب والتنقية كي يكون هذا الجهاز الخطير متوافقا مع رغبة الملاك الحقيقيين من أبناء الشعب. كفانا استفزازا من إعلام نحن نملكه وندفع أجر العاملين فيه، كفانا أن ينظروا لنا ويتناولوا قضايانا أناس غير مؤهلين لأي شئ من فنانين ولاعبي كرة ، فلا تكاد تخطئ بفتح أي قناة من تليفزيون السلطة إلا تجد متقعرا منظرا يحدثك عن رأيه في واقعنا ومستقبلنا وما ينبغي أن نفعله، ويضفي علي نفسه صفة المعالج لقضايانا بأفلامه التي لا يعدو دوره فيها سوي مشخص بأجر لكاتب مغمور . يستحيل أن نقبل أن ينظر لنا هؤلاء أو يتناولوا ببجاحة وجهل علاقاتنا الدولية أو قضايان الاجتماعية. كفانا أن نمزق فهم أبنائنا من رسم صورة البطل والقدوة من هؤلاء وهم تارة لا يفيقون من خمر أو يسطون علي أعراض غيرهم أو يحللون الزنا أو يباهون بالعهر فيما يسمونه بالعمل الفني، ويفرغ لهم زعيم السلطة وقتا من وقته ومدحه والكادحين المقهورين يتفرجون. كفانا أن ندفع الضرائب لقنوات كل همها أن تستفز الناس بملايين يتقاضاها لاعبوا الكرة وهم لا يملكون سوي قدرة علي المراوغة والتباهي بالخبث والمراوغة في الملاعب ويشكلون من خلالها القدوة لأطفالنا والجادون من الفلاحين والعمال وأهل العلم لا يجدون قوت يومهم . كفانا أن يتحدث هؤلاء باسم مصر مرة أخرى فالثورة علمتهم وعلمتنا من هو جدير بالتحدث باسم مصر، ينبغي أن يراعي القانون في أصوله معاقبة كل فاجر وداعر وجاهل مهما كان موقعه أن يتحدث باسم مصر، فمصر أكبر من أن يمثلها لاعب كره تكسب وتخسر بقدمه، أو فنان يذوب في ذات غيره كل يوم ولا ذات له ويتلون فيما يلعب من أدوار فمصر ثابتة ثبات الزمان وما بقيت كتب السماء ولن يعليها أو يخفضها هؤلاء . وسائل الإعلام عظيمة التأثير في التربية والتوجيه والتثقيف، وهي ملك لدافعي الضرائب، وينبغي أن تفتح ألف باب لملاكها فلغتهم صادقة مهما كانت ركيكة، ولابد من تحطيم الحواجز التي أغلقها المتغطرسون والمتغطرسات، ولتفتح أبوابها لكوادر من ملاكها وثوارها الذين علمونا من هو جدير بأن يتحدث باسم مصر وباسم هذا الشعب العظيم. مؤرخ مصري