أعترف بأننى أسأت الظن بشباب هذا الجيل، قلت أنهم شباب لا يُِرجى منهم خيرا، يلهون ويعبثون، وتعمد النظام البائد أن يفتح لهم مجالات اللهو، فشغلهم بالكرة وبالفن، وخلق شخصيات عبثية ليقتدى بها الشباب، كالقرموطى، والهلفوت والمشبوه والمسجل خطر، ونجح النظام بشكل كبير فى إلهاء شباب مصر عن قضايا الوطن، بل نجح فى فصلهم تماما عن وطنهم، واستأثر النظام الفاسد بثروات ومقدرات الوطن، وجعله كعزبة خاصة بعصابة المنتفعين الذين نهبوا خيراته، وتعاملوا مع ملايين الشعب وكأنهم مخلوقات غير آدمية، لا يهم أنهم يسكنون القبور، لأنهم يذهبون للملاهى، ولا يهم أنهم لا يجدون طعاما فلديهم "اللحم الأبيض" الذى بات رخيصا بفضل سياسات النظام وإعلامه الفاسد، ولا يهم أنهم لا يجدون دواءً لأن لديهم أنواعا من البانجو جيدة المفعول، ولا يهم أنهم لا يجدون تعليما ذا رسالة فلديهم تليفزيون صفوت ومن بعده أنس، كما أنهم تخرجوا من مدرسة المشاغبين، التى هدمت أخلاقيات جيل كامل، ولا يهم أنهم متعطلون لأنهم يساعدوا فى ازدهار اقتصاد المقاهى التى أصبحت بعدد البنايات فى مصر، ولا يهم أنهم يتزوجون فوزير ثقافة النظام قال بأن الزواج يربط الانسان بواحدة فقط ولكن الحرية تجعلك "تتذوق" الكثيرات، ولا يهم أنهم ضائعون، فجيل المستقبل الذى أسسه ابن الرئيس يتطلب أن يكون كل أفراده ضائعون كشرط أساسى. نجح النظام البائد فى هدم شباب الأمة، الذين هم القوة الضاربة الفاعلة، وتمادى فى نشر وتسويق ثقافة الانحلال والفساد، وقام بما يشبه عمليات غسيل مخ فى واحدة من أبشع الجرائم التاريخية، حيث شغل الشباب فى اللهو، وشغل العامة بالموالد العجيبة، وشغل الكادحين بأعباء المعيشة، تطبيقا لساسة "جوَع كلبك يتبعك"، التى تعود للعصور الظلامية. تمادى النظام الإجرامى فى جرائمه بحق أبناءه، وزاد حتى فجر وجهر بالفساد دون رقيب أو حسيب، وظن أن لن يقدر عليه أحد، حتى فاض الكيل، فطفت نظرية "مازاد على حده انقلب ضده"، فخرج المارد المصرى من قمقمه، هب مزمجرا مستهزءً بالموت والأخطار، يطالب بحقوقه المسلوبة، فليس بعد ما ذاقه من مرار مراراً، وليس بعد ما لا قاه من امتهان هواناً، وليس بعد ما عاشه من ظلم ظلماً. فى توقيت واحد، انطلقت شرارة الثورة الشبابية فى جميع أنحاء مصر، بشكل أبهر العالم شرقه وغربه، ولم يجد النظام من يقف معه ممن ظل لثلاثة عقود يقدم لهم التنازلات المخزية، على حساب هوية البلاد وأمنها القومى، تخلوا عنه كما هو عهدهم مع خدامهم، رغم أن هذا هو دأبهم مع كل الأنظمة المنبطحة العميلة، لكنه كان نظاما أعمى وأصم، كان نظاما متغطرسا شديد الإستبداد، لا يسمع لرأى إلا ما يتفق مع هواه، ولا يرى إلا ما يعرضه عليه عصابة المنتفعين السفاحين، من لصوص الحزب الفاسد، أو من مجرمى جهاز أمنه سفاكى الدماء، وهو الجهاز الذى يلتهم ربع ميزانية البلد، ومهمته الأولى حماية النظام الفاسد، لم يصدق النظام الغاشم أن جهاز أمنه سقط بعد ثلاث ساعات من اندلاع الثورة، وفر كما تفر الجرذان رغم أسلحتهم الفتاكة، متبرءً من صفته، لكنه عاد من الخلف وساق أمامه البلطجية والمجرمين ليروعوا الشعب فى واحدة من أقذر الجرائم وأبشعها ولا تسقط بالتقادم، لكن الشعب صمد أيضا وهب يدافع عن نفسه وماله، ونجح بامتياز فى تحقيق الأمن والأمان، بشكل فاق كثيرا ما كان يقوم به كلاب الحراسة الذين نهشوا كل شرفاء هذا الوطن. لم يصدق النظام ماحدث، ولعله حتى الآن يظن أنه يعيش كابوسا سوف ينقشع، وأن ما يحدث مجرد أطياف حلم كئيب ما يلبث أن ينتهى، لا يصدق أن ينتفض جموع الشعب بهذه القوة، ويعجز جهاز أمنه الإجرامى فى صدهم، ألقوا عليهم القنابل، وأطلقوا عليهم الرصاص، ودهسوهم بسياراتهم المصفحة، وأطلقوا عليهم مدافع المياه وهم ساجدون فى ساعة من يوم غاية فى البرودة فلم يتزحزحوا، وواصلوا ثورتهم، سقط المئات قتلى، والآلاف جرحى، منعوا عنهم الطعام والشراب والدواء والغطاء، وحرموهم من أن يناموا لسويعات قليلة على الأسفلت بإطلاق السارينات المزعجة، لكن الله ثبتهم وجعلهم فى رباط، فخلقوا مشهدا غير مسبوق فى تاريخ مصر والبشرية كلها. لقد استخف النظام بشعبه مثل فرعون، وبلغ هذا الاستخفاف مداه حين علق على ما يقوم به رجال السياسة والأحزاب ببرلمان شعبى، علق على ذلك خلال أمام برلمانه المزور وأمام كل العالم قائلا: "خليهم يتسلوا"، فكان قمة الاستخفاف والاستهزاء بالشعب، حتى أنى أحسست وقتها وكأن الرجل يبصق على الشعب كله، وانتابنى إحساس مطمئن بأن ما قاله هو بداية النهاية لهذا الرجل، الذى بلغ به الصلف والكبرياء مبلغا فاق كل الطغاة الذين سجل التاريخ سيرهم فى أقبح صفحاته، وأفصحت عن هذا الإحساس فى مقال سابق بعنوان: "احذروا غضبة الفقراء والمقهورين"، وأكدت أن السماء باتت ملبدة بسحب الغضب، وأنها سوف تمطر بنزينا، ولكن لا حياة لمن تنادى. إخوانى الذين هم فى الميدان رابضون، ثابتون، أنتم الأصغر سنا لكنكم الأكبر مقاما، والأعلى همة، والأقوى إرادة، ومكانكم فى التاريخ محفوظا فى أنصع صفحاته، فأنتم تكتبون الآن عصرا جديدا لمصر والمنطقة كلها، سوف يبدأ عهدا جديدا يعيش فيه المصريون كمواطنين كرامتهم محفوظة وحقوقهم مصونة، ودماؤهم غالية. ها هو الفجر يبزغ مشرقا على مصر وكل الدول المجاورة، بفضل هؤلاء الأبطال، الذين سوف يحمل الميدان اسمهم ليكون "ميدان ثورة الشباب"، وتكتب أسماء من استشهدوا بماء الذهب على نصب فيه. سقط الطاغية .. وانتصر شباب مصر. كلمة أخيرة: يحاول النظام الفاسد تسويق أمر غريب، وهو أن ما يحدث الآن فى ميدان التحرير يقف وراءه الإخوان، ونجح بشكل جزئى فى أن يظهر الأمر بأنه إخوان ولا مش اخوان، وتلك مصيبة، أن تنحصر أغلب التعليقات فى أن هؤلاء اخوان أو غير اخوان، دون أن يسأل أحد سؤالا منطقيا: هل لو كان هؤلاء هم الإخوان سيتغير الأمر؟؟ بمعنى هل الإخوان فرع لدولة اسرائيل وغير مصريين؟ وإذا كان الإخوان هم وراء ذلك كما يدعى أذناب الحزب الفاسد البائد فهم بذلك يمنحونهم شرفا كبيرا، شرف إسقاط نظام إجرامى فاسد فاسد فاسد. [email protected]