إذا أردت أن تتعرف على شعب أكثر هوساً بمظاهر الاحتفاء بحدث سياسي دون الالتفات إلى دلالته أو كنهه فلا تجتهد في البحث ، فالمصريون وحدهم منذ تاريخهم الضارب في القدم اهتموا بذلك ، وبغير الاستطراد الطويل للتأكيد على هذا الملمح الثقافي الحصري لدى المصريين ، فالانتقال سريعاً نحو احتفاء شعب بدستوره يعد أكثر قبولاً وحداثة ، فالمصريون الذي خرجوا ليومين متتاليين للتعبير عن فرحتهم أو استيائهم نحو الكتب الصغير الذي تضمن مواد وأبواب دستورهم لم يكن مدهشاً أو مغايراً لطبيعة هذا الشعب الذي قرر منذ سنين أن يكترث طويلاً بأحداثه اليومية والسنوية ، رغم أن الاحتفاءهم السياسي لم يكن على نفس حدث الاحتفاء بذكرى المولد النبوي الذي اعتدت فيه أن أخرج وأسرتي لمشاهدة مظاهره وملامحه التي كانت مصر يوماً ما هي الوطن الذي امتلك وحده حق الاحتفال والاحتفاء بهذه الذكرى . المهم خرج المصريون بالملايين ليصوتوا بأغلبية حسب الاستطلاعات الأولية بنعم لا للدستور لعدة أسباب بل لنجاح خارطة الطريق فقط ، ويكفيك أن تقف على أبواب بعض اللجان بالمناطق الشعبية وبالقرى الأكثر فقراً والتي زادها الوريث الضائع جمال مبارك فقراً على فقر لتسأل المواطنين عن أبرز المواد التي نالت إعجابهم بالدستور ليقولوا لك إجابات متباينة ومدهشة مثل : قلت نعم بالتأكيد ، وآخر نعم لقواتنا المسلحة ، وثالث هذا الدستور أحسن دساتير العالم ، ورابع وخامس ، ولم أعثر على مواطن يشير إلى مادة بعينها أو جملة أبواب ومواد نالت إعجابه وتقديره ، وهذا يؤكد أن خروج المصريين كان من أجل نجاح خارطة الطريق والقضاء على الإرهاب الذي صار لصيقاً بتنظيم الإخوان وليس من أجل دستور لجنة الخمسين الذي لم يقرؤه مصريون كثر . وربما اهتمت وسائل الإعلام بهذا الخروج العظيم والاستثنائي وراحت بعض الفضائيات تهلل لمشهد الازدحام ، لكن كان من الأحرى عليها وعلى السادة رواد الفضائيات الفراغية أن تبحث جلياً في علامات هذا الخروج الذي بقدر ما هو أسعدني إلا أنني اعتقدت أن المصريين لأول مرة يعرفون كلمة الدستور والتصويت على مواده بدليل التدافع بين المواطنين والوقوف بالطوابير وبعد ذلك الخروج إلى الشوارع للفرحة والابتهاج متناسين أنهم أقدم شعوب الأرض معرفة وتوثيقاً للدساتير والقوانين لكن لأننا شعب احترف هوس الاحتفاء والاحتفال يمكن التماس العذر لهم . لكن أزمة المصريين الحقيقية أنهم شعب يأبى الانتظار فهو لم يقبع للاستماع إلى نتائج الاستفتاء النهائية واكتفى بالخروج إلى الشوارع والميادين وسط رقصات وحركات استعراضية وسيارات تدوي إيذاناً بنتيجة شعبية بغير انتظار القرار النهائي الذي يصدر من اللجنة العليا للانتخابات وهذا أمر خطير وعلى الدولة والحكومات التي ستتعاقب على مصر أن تدرك هذه السمة الوافدة على طبائع المصريين الذي بنوا السد العالي وشيدوا الأهرامات وحفروا قناة السويس ورغم ذلك أصبحوا شعباً يمقت ويأبى الانتظار وربما أن صبرهم قد نفد عقب الأيام الثمانية عشر التي أدت إلى سقوط مبارك ونظامه ، وانهار الصبر نهائياً بعد سنة طويلة تحت حكم الرئيس المعزول مرسي وأهله وعشيرته لذا كان قرارهم بأن الانتظار لم يعد كفيلاً وكافياً للحياة. ولعلماء الاجتماع رأي آخر في مظاهر الخروج العظيم للمصريين للاحتفاء بالتصويت وليس ممارسة الحقوق السياسية ، لأن من أسباب الخروج هو الغضب على تنظيم الجماعة ، وليس المواد الدستورية التي من بينها كلمات مثل معايير الجودة ومعدلات النمو العالمية والحوكمة ، وهذه الكلمات وغيرها لا تتماشى مع وطن لا يزال يعاني من خطرين كبيرين وهما شلل الأطفال ومحو الأمية ، لذا فالقضاء على التنظيم وجعله غير شرعي تم بالفعل من خلال الخروج إلى اللجان الانتخابية والاحتفاء بالشوارع والميادين ، فالمصريون الذين ذهبوا وصوتوا بنعم قالوها في وجه التنظيم وأنهم يريدون تاريخاً جديداً لمصر وأهلها . ولنفس العلماء رأي آخر مثير للدهشة ، بأن المصريين الذين اعتادوا تهميش الثقافة والابتعاد عن وجعها وآلامها وتخييلاتها الظنية ، قرروا لآخر مرة أن يستمسكوا بها من خلال وثيقة وعقد اجتماعي مكتوب يحدد العلاقة بين المواطن ووطنه ، ويميز حقوقه وواجباته على هذه الأرض . لكن تبقى الإحصائيات الأولية عن نتائج التصويت هي الأكثر أهمية ؛ فعدد الأصوات الهائلة الكبيرة حجماً التي قالت نعم تظل أزمة حقيقية وعائقاً أمام الدولة والسلطة السياسية ، لأن بهذا العدد أيقن النظام الحاكم حقيقة أن الشعب هو المعلم والملهم والمحرك للمشهد السياسي في مصر ومن ثم ينبغي الآخذ بجدية عدد هذه الأصوات التي ستمسك عما قريب في رقبة الحكومة في حالة التقاعس أو تأخر تنفيذ المطالب والمواد التي تضمنها الدستور الجديد ، وهذا يجعل النظام السياسي فعلاً في حالة حذر وترقب دائم من غضبة الشعب الذي صوت بنعم انتظاراً لمستقبل مغاير لعقود مبارك البائسة ولسنة مرسي الفاشلة . فهذا الرقم الذي تجاوز نسبته 98 % يمثل مأزقاً كبيراً أمام أي نظام سياسي يفكر ولو لبرهة صغيرة أن يتأخر عن تنفيذ مطالب شعبه ولا يكترث بتحقيق مطامحه التي لا تهدأ ولا تستكين . وكم أتمنى ألا يعزي المصريون ويؤلوا نتيجة الاستفتاء على الدستور إلى شخص بعينه أو لحزب ديني ذي صبغة سياسية أو لفصيل أو لجماعة بل إليهم أنفسهم لأنهم بحق مالكو الأرض والوطن ، وأنهم شرارة العمل ويقين النجاح على هذه الأرض المباركة ، وعليهم أن يقرأوا الواقع بعمق وروية ، فكم من شعب انمحى لأنه تعلق بزعيم ولم يفطن أن مصر بحق ولاّدة بفطرتها ، وأنها الباقية بنشيدها وعلمها وجيشها العظيم الباسل وبنيلها وترابها وبتاريخها الأمجد والأروع . لكن بعد الاستفتاء على الدستور والنتيجة غير المحتملة لأنها ستخرج بنعم وبالموافقة ، هل آن الوقت لقراءته اليوم لا من أجل التعرف عليه وعلى مواده فقط ، بل من أجل استشراف مستقبل لوطن لم يعد منتظراً لثورة جديدة لأنه بالفعل استهلك طاقاته في ثورتين متتاليتين ولا تزال الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والعيش بمنأى ؟؟ . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.