قامت وزارة الأوقاف ابتداءً من يوليو 2013م بسلسلة من الإجراءات المتتابعة، كان من أهمها أنها منعت صلاة الجمعة في الزوايا المساجد التي تقل مساحتها عن 80 متراً مربعاً، لمواجهة ظاهرة عشوائية "خطب الجمعة"، وسحبت تراخيص 55 ألف إمام وخطيب كانوا يعملون في تلك الزوايا والمساجدلانتفاء الحاجة إليهم بعد إغلاقها. ومنعت خطباء الجمعة من غير الأزهريين الحاصلين على ترخيص رسمي من الوزارة. وضمت مئات المساجد الأهلية إلى قطاع المساجد بالوزارة. وأمرت خطباءها بأن تكون خطبة الجمعة حول ضرورة دفع فواتير الكهرباء، وأن الامتناع عن الدفع أكل للسحت، ...إلخ. لفتت تلك الإجراءات وغيرها أنظار كثيرين من المواطنين إلى "وزارة الأوقاف" وعلاقتها بالمساجد والدعوة بشكل غير مسبوق. وفي هذا السياق سألني سائل مستفهماً: ما حكاية علاقة وزارة الأوقاف بالدعوة والمساجد، وما أصل هذه العلاقة: متى نشأت وكيف تطورت؟.وقبل أن أبدأ إجابتي، مضى السائل مشدداً عليَّ في المسألة وقد تملكه الغضب قائلاً: فسِّر لي: لماذا لا توجه هذه الوزارة أئمة المساجد وخطباءها إلى المشاركة في مقاومة الظلم باعتبار أنها أمينة على "الدعوة إلى الله"، والظلم بحسب تعاليم هذه الدعوة "ظلمات"؛ ولماذا لا تحضهم على أن يقولوا للظالم أنت ظالم وينتصروا للمظلوم؛ باعتبار أن هذا من صميم "الدعوة" التي يجب أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة؟. قلت لسائلي:لقد أكثرت من الأسئلة، وأوغلت في بعضها، ومن حقك عليَّ أن أجيبك، وعليك أنت الصبر. إن أغلب ما تراه اليوم يا صديقي من وزارة الأوقاف تجاه الدعوة والدعاة والمساجد هو فرع على أصل، وثمرة لها جذر غائر في وقائع تاريخ مصر الحديث والمعاصر . وسأبدأ إجابتي بتعريف موجز للوقف؛ فهو "حبس العين من أرض أو عقار مثلاً، وتسبيل الثمرة"؛ أي إنفاق العائد أو الريع في وجوه الخير والنفع العام كما قال الفقهاء. والأوقاف سنة حسنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وهي في جملتها هي حصيلة مبادرات خيرية قدمها المحسنون حسبة لوجه الله تعالى، وحددوا طريقة إدارتها ووجوه إنفاق عوائدها؛ بما يعني أنها عمل أهلي بحت؛ وعليه فالأصل هو أن تكون إدارتها أهلية مستقلة وبمعرفة المتبرعين بها؛ ما لم يختاروا هم بمحض إرادتهم جهة أخرى لإدارتها. وقد تنوعت جهات البر والخيرات التي أنفقت عليها الأوقاف: من مدارس وجامعات ومستشفيات وصيدليات ودور أيتام وملاجئ ومضايف ومساعدات عينية ونقدية للفقراء والمساكين، وإنشاء المساجد، والإنفاق علي صيانتها وتشغيلها. وبمرور الوقت زادت الأحكام التفصيلية بشأن الوقف. ومن أهمها حكم تأبيد الوقف، وحكم تأقيته بمدة زمنية معينة. وظهر بمرور الزمن أيضاً نوعان من الأوقاف: الأول هو الوقف الأهلي الذي ينفق ريعه على أبناء الواقف وذريته من بعده. والثاني هو الوقف الخيري الذي ينفق ريعه على وجوه البر والخيرات العامة. وقد يتم الجمع بين هذا وذاك. وأعطى الفقهاء المسجد وضعاً خاصاً له ولما وقف عليه أيضًا؛ حيث قرروا أن أرض المسجد وبناءه وقف، مؤبد لا يجوز الرجوع فيه، وأن الأوقاف التي تخصص للإنفاق عليه لا تكون إلا مؤبدة ولا يجوز تأقيتها بمدة زمنية ولا الرجوع فيها. وهكذا نشأت الصلة الأصلية الأولى بين الأوقاف والمساجد والدعوة بصفة عامة منذ أول مسجد بناه الرسول في عهده صلى الله عليه وسلم. وكانت الحكمة من ربط المسجد بالأوقاف على سبيل التأبيد هي ضمان مصدر تمويل له ثلاث خصائص هي: الاستقلال، والاستقرار، والاستمرار. وكانت الحكمة البالغة من ذلك هي ضمان دوام الإنفاق على شئون الدعوة والدعاة إلى الله حتى يؤدوا واجبهم باستقلالية تامة عن أية جهة رسمية أو حكومية؛ حيث أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون حرة ومستقلة عن أي سلطة سوى سلطة العلم والضمير، ولأن المساجد لله "فلا تدعو مع الله أحداً". وليس أدل على استقلالية المساجد ةوظيفتها الدعوية من أن تاريخ الدولة الإسلامية لم يظهر فيه "ديوان" أو (إدارة رسمية = وزارة) للأوقاف. وظل الحال على هذا النحو إلى مطلع القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي عندما نشأت "الدولة الحديثة" في عهد محمد علي. فقد بدأت هذه الدولة تبسط سيطرتها التدريجية على نظام الوقف وعلى كل مؤسسات المجتمع الأهلي. وهكذا نشأ "ديوان الأوقاف" سنة 1835م لأول مرة في تاريخ مصر. ولكنه ولم يستمر سوى ثلاثة سنوات وتم إلغاؤه في سنة 1838م. وكانت اختصاصات ذلك الديوان ضيقة جداً لم تتعد حصر الوقفيات، وتسجيل بياناتها، ورعاية أوقاف السلاطين والحكام السابقين، وبعض المساجد السلطانية الكبرى. وحرص جميع الحكام من محمد على إلى فاروق الأول على ضمان استقلالية الغالبية الكبرى من المساجد الأهلية ولم تمتد يد أي جهة حكومية إليها. كان محمد علي باشا قد أصدر في سنة 1835م أيضاً أول لائحة قانونية في تاريخ البلاد لتنظيم عمل ديوان الأوقاف وتحديد اختصاصاته. ومما جاء في تلك اللائحة أن المساجد والجوامع يجب أن تظل مفتوحة على مدار اليوم ويجب أن تصان أوقافها لدوام الإنفاق عليها، وأن تراعى شروط الواقفين في إنفاق عوائدها. وظل العمل جارياً وفق تلك اللائحة حتى صدرت لائحة جديدة للديوان في سنة 1896م. وكانت هذه اللائحة أكثر تفصيلاً وتوسعاً في منح ديوان الأوقاف سلطات كبيرة. واستوعبت تلك اللائحة فتوى البنود العشرة للمفتي الشيخ محمد المهدي العباسي (ت 1315ه 1897م) وكانت هذه البنود خاصة بالأوقاف وكيفية التصرف في ريعها والإنفاق على المساجد على نحو يسمح للجهة الإدارية الحكومية بصلاحيات التصرف في كثير من الوقفيات وعوائدها. وحصرت تلك اللائحة في مادتها السادسة اختصاص ديوان الأوقاف بشأن المساجد في "عزل وتعيين الخطباء والأئمة والمدرسين بالجوامع والتكايا ممن تكون لهم ماهيات ومرتبات بالديوان أو بجهات الحكومة". وفصلت مواد الباب الخامس من اللائحة أحكام تعيين أولئك الأئمة والخطباء فقط، وكيفية الحصول على الفرمانات العَليَّةِ لإقامة صلاة الجمعة (لاحظ أن مصر كانت لا تزال ملتزمة بقوانين الدولة العثمانية باعتبارها من ولاياتها حتى سنة 1914م). نشأت وزارة الأوقاف في نوفمبر سنة 1913م، وورثت اختصاصات "ديوان عموم الأوقاف" بما في ذلك ما ذكرناه بشأن بالمساجد. واستمر الحال على هذا النحو إلى أن قامت ثورة يوليو سنة 1952م. وبعدها دخلت الأوقاف بكاملها تحت سيطرة وزارة الأوقاف؛ بما فيها الأوقاف المخصصة للإنفاق على شئون المساجد والأزهر ومرافقه. وتم فصم عروة الارتباط المباشر بين مساجد مصر وأوقافها لأول مرة. وباتت الوزارة "حلقة الوصل، أو الفصل "بينهما، بحسب تقلبات شئون الحكم والسياسة. وشرعت وزارة الأوقاف منذ منتصف الخمسينيات في ضم المساجد الأهلية إليها حتى تغطي على مصادرة أوقاف تلك المساجد وفصلها عنها. وفي الوقت نفسه بدأت الوزارة في تعيين أئمة تلك المساجد وخطبائها وموظفيها الآخرين وتدفع رواتبهم وذلك لأول مرة في تاريخ المساجد منذ نشأت ابتداءً من فتح مصر سنة 21ه. ووضعت الوزارة خطة خمسية أولى، ثم خطة خمسية ثانية لضم جميع المساجد إليها في عشر سنوات(19551965). ولكنها أخفقت في تحقيق هذا الهدف؛ وكانت الوزارة تعتذر عن عدم قدرتها على ضم المساجد في كثير من الحالات بحجة عدم كفاية مواردها المالية. وظل الحال على هذا المنوال إلى أن تولى الدكتور محمود حمدي زقزوق وزارة الأوقاف في سنة 1996م. وأبدى همة عالية في ضم آلاف المساجد إلى الوزارة، إلى أن أطاحت ثورة 25 يناير سنة 2011 به وبنظام مبارك، ودخلت البلاد في حالة من عدم الاستقرار. وبعد أحداث يوليو سنة 2013م، استأنفت وزارة الأوقاف مشروعها الذي بدأته منذ الخمسنيايت بهدف ضم جميع المساجد مصر والانفراد بتعيين أئمتها وإدارتها بما في ذلك المساجد التي أنشأها الأهالي بمجهوداتهم الذاتية. قلت لسائلي: وحتى نفهم اختصاصات وزارة الأوقاف بشكل دقيق، علينا أن نتعرف على ظروف وملابسات نشأة "الوزارة" ذاتها كجهة حكومية في سنة 1913م، فالسياق التاريخي لنشأتها يساعدناعلى فهم اختصاصاتها وما طرأ عليها من انكماش أو اتساع. تشير ملابسات نشأة الوزارة إلى أن إدخال الأموال والمؤسسات الموقوفة في "بيت الطاعة الحكومية" كان من الأهداف الرئيسية لتحويل ديوان عموم الأوقاف" في نوفمبر سنة 1913 إلى وزارة تخضع لقواعد الميزانية العامة للدولة شأنها شأن بقية" وزارات الحكومة. وقد كشفت لنا الوثائق الرسمية التي تعود لتلك الفترة أن اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر آنذاك هو صاحب هذه فكرة إنشاء وزارة للأوقاف، وتابعه خلفه اللورد جورست، ثم اللورد كتشنر الذي نجح في إقناع الخديو عباس الثاني والباب العالي في الآستانة بتحويل ديوان الأوقاف إلى وزارة. وقبل مبادرة كرومر لم يطالب مصري واحد بإنشاء وزارة للأوقاف، ولا بتحويل ديوان الأوقاف إلى وزارة؛ بل وجدنا كثيرن من الواقفين يشترطون عدم تدخل "ديوان عموم الأوقاف" في شئون وقفياتهم بأي حال. وبالرغم من الجهود الجبارة التي بذلتها سلطة الاحتلال من أجل إنهاء الاستقلالية التي كان يوفرها ديوان الأوقاف، فإن روح الاستقلالية وعدم قابلية الأوقاف لدخول بيت الطاعة الحكومي ظلت مستمرة إلى ما قبل ثورة يوليو سنة 1952. وقد وصف إبراهيم باشا عبد الهادي هذه الحالة أثناء عضويته بمجلس النواب في سنة 1941م بقوله إن "وزارة الأوقاف مثل عساكر الباشبوزق". أراد بهذا التشبيه أن يقول إن هذه الوزارة آنذاك كانت صعبة المراس، وغير منصاعة للأوامر والنظم الحكومية مثل بقية الوزارات. وكان تشبيهه بليغاً فعلاً؛ فكلمة "باشبوزق" كلمة تركية/عثمانية تعني الجنود غير المنتظمين في سلك الطاعة العسكرية. وكانوا عقبة رئيسية أمام رغبة محمد علي باشا في بناء جيش مصري حديث ومنظم. ولم يستطع التخلص منهم إلا في سنة 1838م. وهو ما حدث مع وزارة الأوقاف التي ظلت منذ نشأتها سنة 1913م في حالة استعصاء على الانتقال من "الاستقلالية" إلى التبعية الحكومية.، ولم تدخل في بيت الطاعة الحكومية دخولاً تاماً إلا بعد قيام ثورة يوليو سنة 1952م. ويوضح المحتوى التشريعي للأمر العالي للخديو عباس بتحويل ديوان عموم الأوقاف لوزارة الكثير من الحقائق حول وظائفها الإدارية، واختصاصتها الدعوية التي أضيفت إليها بفعل التقلبات السياسية. أول وأبرز الحقائق في هذا "الأمر العالي" هو أنه أكد بشدة على "استقلالية الأوقاف". وقد تجلى هذا فيما تضمنته ديباجته من النص على أن وزارة الأوقاف تكون "ميزانيتها قائمة بنفسها على حدتها" أي غير مندمجة في الميزانية العامة للدولة، وأن "يبقى للأوقاف استقلالها الذاتي". الحقيقة الثانية هي أن الأمر العالي رسم السياسة العامة التي يتعين أن تلتزم بها "وزارة الأوقاف"، وحددها في ثلاثة نقاط رئيسية هي: أ "احترام الشروط والقيود المدونة في الوقفيات"، وهذه مسألة شرعية خالصة، وملتزمة بالقاعدة التي تقول "شرط الواقف كنص الشارع في لزومه ووجوب العمل به". ب "الاهتمام بإقامة الشعائر الدينية". وهذا نص حرصت الحكومات المصرية على إثباته في كل القرارات واللوائح التي نظمت الأوقاف منذ لائحة ديوان الأوقاف الأولى التي أصدرها محمد علي باشا في سنة 1835م، إلى اليوم . ومن باب هذا الاهتمام زحفت الإدارة الرسمية للأوقاف شيئاً فشيئاً على الأزهر وإدارة المساجد ومن ثم على شئون الدعوة فى عموم مصر. ج رعاية " الأعمال الخيرية المتعلقة بها"؛ أي بالأوقاف. ومن باب هذه "الرعاية" تدخلت الإدارة الرسمية للأوقاف تدريجيا في شئون مؤسسات الرعاية الاجتماعية التي مولتها الأوقاف: مثل الملاجيء ودور الأيتام والمستوصفات والمضايف والمدارس وغير ذلك من المبرات الخيرية، وأنشأت لها أقساماً داخلها. وظلت تحت ولايتها إلى أن سلمتها بعد ثورة يوليو إلى جهات ووزارات حكومية أخرى. الحقيقة الثالثة في "الأمر الخديوي العالي" هي أنه نظم علاقة "وزارة الأوقاف"، ببقية سلطات الدولة الثلاثة: التنفيذية ممثلة في "مجلس الوزراء"، والقضائية ممثلة في "المحكمة الشرعية"، والتشريعية ممثلة في "الجمعية التشريعية". وكانت الجميعة التشريعية آنذاك تشبه البرلمان اليوم. وهذا التنظيم المنصوص عليه في الأمر الخديو يكشف عن الجهود المضنية التي بذلها "أولو الأمر" آنذاك لتوطين "الأوقاف" في الجسد "البيروقراطي الحكومي الرسمي"، مع محاولة المحافظة في الوقت نفسه على "استقلالية الأوقاف"؛ لأنها عمل تطوعي أهلي، ولأن المساس باستقلاليتها يطعن في شرعية السلطة الحاكمة ذاتها. ومثل هذا الطعن لم تكن سلطة الخديو عباس حلمي تقبله، أو تتحمله. ولكن الأمور سارت بعد ذلك في مسارات مختلفة. ولك يا صديقي أن تقارن بنفسك ما كان عليه الحال زمن نشأة وزارة الأوقاف بما آل إليه الحال اليوم.