قبل مائة سنة, وفي يوم20 نوفمبر من عام1913 أصدر عباس حلمي الثاني خديو مصر أمرا عاليا بتحويل ديوان عموم الأوقاف إلي وزارة. وبذلك تكون وزارة الأوقاف قد أكملت المائة سنة الأولي من عمرها. وفي مثل مناسبة كهذه كنا نتوقع أن تقوم الوزارة بالاحتفال احتفالا جادا يليق بمكانتها ودورها في تاريخ مصر الحديث والمعاصر. ولست أقصد ذلك النوع من الاحتفالات الفارغة من المضمون, المضيعة للوقت والمال والجهد; وإنما أقصد الاحتفال الهادف بتنظيم ندوة أو أكثر لمناقشة أوضاع الوزارة ومشكلاتها وتوجهاتها المستقبلية بعد مائة سنة من العمل: وهل سارت فيما مضي في عملها وفق سنة النمو والتقدم للأمام, أم تغلبت عليها عوامل التدهور وقادتها للتراجع إلي الخلف؟ وما أسباب هذا أو ذاك؟ وما الذي ينتظره المصريون خاصة بعد ثورة يناير من هذه الوزارة المؤتمنة علي نوايا الخير التي عبر عنها المصريون بأموالهم الموقوفة علي مر الزمن؟. لكن شيئا مما توقعناه لم يحدث. فقد حلت المناسبة ومضت ولا حس ولا خبر, لا من داخل الوزارة, ولا من خارجها. وإذا نحينا الأعذار التي يمكن أن يتعلل بها البعض في ظل الظروف التي تمر بها البلاد فإن هذا التجاهل غير المقصود أو المقصود من شأنه أن يترك آثارا بالغة السلبية في الوعي الجمعي للمصريين تجاه المؤسسات الحكومية, خاصة المؤسسة الوقفية الرسمية المحملة أصلا بكثير من الأعباء والتشوهات. ومن تلك الآثار السلبية مثلا: تكريس الانطباع السائد بأن مؤسسات الحكومة المصرية بلا ذاكرة, أو فاقدة للذاكرة, وأنها غير مدركة للقيمة الرمزية لهذه المناسبة في بناء جسور للتواصل بين أجيال جديدة من الخبراء والمختصين في مجالات عملها.إن من حق الأجيال الجديدة علينا أن تعرف قيمة وزارة الأوقاف. وهل نجحت في أداء المهمات والأهداف التي نشأت من أجلها والتزمت بها, أم خرجت عنها وتوسعت فيها؟ وما أهم إنجازاتها وإخفاقاتها؟ وكيف واجهت العواصف السياسية التي هبت عليها أو مرت بها؟. وماذا عن مبناها الأثري الكائن بباب اللوق بمدينة القاهرة؟ ومتي وما هي أحواله الراهنة؟ وهل لا يزال محتفظا ببهائه وطرازه العربي الإسلامي الرائع, أم أن العشوائيات داهمته في عقر داره: من فوق سطحه, وعلي جوانبه, ومن أسفل منه؟ وهل هناك رؤية مستقبلية لتطوير أداء الوزارة ورفع كفاءتها, وصيانة ديوانها العام أم لا؟. وليس من مناسبة للإجابة علي كل هذه الأسئلة وغيرها, أفضل من ذكري مرور قرن كامل من الزمان علي نشأة واحدة من أعرق وزارات الأوقاف في العالم الإسلامي. كان صدور الأمر الخديوي بتحويل ديوان الأوقاف إلي وزارة لحظة فارقة في تاريخ علاقة المجتمع بالدولة, وفي تاريخ الأوقاف المصرية الممتد منذ فتح عمرو بن العاص مصر في العام21 من الهجرة النبوية. وللأهمية البالغة لذلك الأمر الخديوي نثبته هنا بنصه كاملا. ونص الأمر العالي هو كما يلي: نحن خديو مصر: بعد الاطلاع علي أمرنا الصادر في13 يوليو سنة1885 بالتصديق علي لائحة الأوقاف, ومراعاة لرغبتنا في زيادة تحسين السير في جميع المصالح العمومية بحكومتنا, وتمكين رعايانا من الاشتراك في مراقبة مرافق الأمة طبقا للقوانين النظامية. ونظرا للازدياد الذي طرأ علي الأعمال القائم بها ديوان عموم الأوقاف, واتساع نطاق الأمور الموكولة إليه وتعددها, فضلا عما هو منظور لها من النماء. ونظرا إلي الفائدة التي تترتب حينئذ علي جعل هذا الديوان نظارة يتولي شئونها ناظر بعنوان ناظر الأوقاف, يدخل في هيئة مجلس النظار, ويعطي التوكيل منا بالصيغة المقررة من قديم الزمان, ويدير الأعمال التي من اختصاص ديوان عموم الأوقاف بنفس المسؤولية الملقاة علي عاتق سائر النظار في نظاراتهم; بحيث يبقي لمصلحة الأوقاف استقلالها الذاتي, وتكون ميزانيتها قائمة بنفسها علي حدتها, ويكون علي هذا الناظر السهر علي حسن سير تلك المصلحة, واستعمال أموالها في شؤون الأمة الإسلامية, والمحافظة علي الاحترام الواجب للشروط والقيود المدونة في الوقفيات طبقا لأحكام الشرع الشريف, مع الاهتمام بإقامة الشعائر الدينية والأعمال الخيرية المتعلقة بها كما يجب. والرجوع إلي المحكمة الشرعية في جميع الأحوال التي نصت اللائحة الحالية علي الرجوع فيها إليها. ولما كان من الضروري دقة البحث في التعديلات والتحسينات التي قد تدعو الحاجة إلي إدخالها في نظام مصلحة الأوقاف. ومن المفيد أن يضم إلي الناظر المشار إليه مجلس يعاونه في هذه المهمة, ويحل محل مجلس الأوقاف الأعلي الحالي بنفس الاختصاصات المخولة له, بحيث تبلغ نتيجة هذا البحث إلي مجلس النظار. كما أن كل تعديل في النظام الحالي يجب تقديمه إلي الجمعية التشريعية للمناقشة فيه ثم عرضه علينا لصدوره في صيغة قانون. فبعد موافقة رأي مجلس النظار أمرنا بما هو آت: المادة الأولي: تنشأ نظارة للأوقاف يتولي إدارتها ناظر يعاونه وكيل نظارة, وتحل محل ديوان عموم الأوقاف. المادة الثانية: يتألف المجلس الأعلي من ناظر الأوقاف بصفة رئيس, ومن شيخ الجامع الأزهر, ومفتي الديار المصرية, ومن ثلاثة أعضاء آخرين يكون تعيينهم منا بناء علي طلب مجلس النظار. فإذا حدث مانع لناظر الأوقاف, تكون رئاسة المجلس الأعلي لوكيل نظارة الأوقاف. وإذا حدث مانع لواحد من العالمين المشار إليهما فيقوم مقامه عالم آخر يعينه مجلس النظار. وتكون مداولات المجلس صحيحة إن حضره أربعة من الأعضاء علي الأقل. وعند انقسام الآراء يكون رأي الرئيس مرجحا. المادة الثالثة: تكون ميزانية الأوقاف نافذة المفعول بمقتضي إرادة خديوية تصدر منا بناء علي طلب نظارة الأوقاف, وتصديق المجلس الأعلي, وبعد أخذ رأي الجمعية التشريعية. ويقدم للجمعية التشريعية أيضا الحساب الختامي لكل سنة بعد انقضائها. المادة الرابعة: تلغي جميع النصوص المخالفة لأمرنا هذا. وفي جميع النصوص الأخري يكون اسم ناظر الأوقاف ونظارة الأوقاف بدلا من مدير عموم الأوقاف وديوان عموم الأوقاف. المادة الخامسة: علي رئيس مجلس النظار تنفيذ أمرنا هذا, ويسري العمل به بمجرد نشره في الجريدة الرسمية.( صدر بسراي القبة21 من ذي الحجة سنة1331 20 نوفمبر سنة1913 م. عباس حلمي). وتستحق خلفيات وتداعيات هذا الأمر العالي مقالا آخر بمناسبة مرور مائة سنة علي نشأة وزارة الأوقاف. لمزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم