لم نعد بحاجة إلى أدلة عن تعثر أمريكا في أفغانستان، بل فشلها في تحقيق النصر على مدى أكثر من تسع سنوات، جندت خلالها كل طاقاتها وإمكاناتها لهزيمة عدوها المتمثل في تنظيم القاعدة وحليفته حركة طالبان. تسع سنوات من المعارك الضارية الفاشلة برا وجوا، في العمق وعلى الحدود، في الليل والنهار، بقوات تجاوز عددها 150 ألف ضابط وجندي من نخبة القوات الأمريكيةوالغربية، مدججين بأعتى وأحدث أسلحة الفتك والدمار، وجيوش أخرى من أجهزة المخابرات والجاسوسية، ومليارات الدولارت التي تنفق على الحرب بشكل مباشر وتصل إلى 113 مليار سنويا وهو مبلغ يعادل عشرات أضعاف ميزانية الدولة التي تجري فيها الحرب وهي أفغانستان، ناهيك عن المليارات الأخرى التي تنفق على الأعوان والعملاء، وعلى الرشاوى التي تقدم للشعب الأفغاني في صورة معونات إقتصادية بهدف جذب هؤلاء السكان إلى جانب القوات الأطلسية، وإنقلابها على المقاومة. لقد أعلن بوش نصره المزعوم منذ تسع سنوات حين تمكنت قواته وقوات حلفائه من دخول أفغانستان، ولكن خلال هذه السنوات التسع والتي تدخل قريبا عامها العاشر، لم تنعم القوات الغازية بيوم واحد من الإستقرار والطمأنينة، ظلت عمليات المقاومة تلاحق الغزاة في الشوارع والحارات والصحاري والقفار، وحتى في عقر دارهم وداخل ثكناتهم العسكرية وقواعدهم الحصينة، وراح خلال العام 2010 وحدة حوالي ألف قتيل أمريكي وأطلسي، وكذا آلاف الأفغان الضحايا، ومن عجب أن تشارك قوات عربية مثل القوات الأردنية في تلك الحرب القذرة رغم ان مكان تلك القوات الأردنية الطبيعي هو على بعد خطوات من حدودها الغربية مع العدو الأول للأمة العربية والإسلامية وهو الكيان الصهيوني، والأغرب أن سدنة ودهاقنة النظام الأردني سواء في وسائل الإعلام أو المجلس النيابي هبوا عن بكرة أبيهم ضد فتوى شرعية صدرت عن هيئة علماء حزب جبهة العمل الإسلامي بتحريم المشاركة في تلك الحرب. نزيف القتلى الغزاة لن يتوقف، والأصح أنه سيستمر ويتزايد خلال العام الجديد مع تراكم الخبرات القتالية وإرتفاع الروح المعنوية لرجال المقاومة الأفغانية الذين يقاتلون دفاعا عن دينهم وأرضهم وعرضهم، ويقاتلون وسط شوارعم وطرقاتهم التي يعرفونها جيدا، ووسط أهلهم الذين لم تفلح كل الرشاوى في دفعهم لمواجهة المقاومة، في مقابل تدني الحالة المعنوية للقوات الغازية والذين تبعد بلدانهم عن أفغانستان آلاف الأميال، والذين يقاتلون على أرض لايعرفونها، ووسط أناس لايكنون لهم أي ود، وليس لحربهم هدف مشروع، ولا مبرر أخلاقي. نعم تفتقر المقاومة الأفغانية إلى الأسلحة الحديثة، ولكنها في المقابل تمتلك أمضى الأسلحة وهو سلاح الإيمان، الإيمان بالله، والإيمان بعدالة القضية التي يحاربون من أجلها، والإيمان بوعد الله بالنصر لعباده المؤمنين، وإلى جانب هذا السلاح الإيماني، هناك دعم الأشقاء والجيران الذي لم ولن يتوقف رغم التهديد والوعيد الأمريكي ، فلا ننسى أن أفغانستان مفتوحة على سبع دول إسلامية، ورغم أن حكومات هذه الدول تخضع للوصاية الأمريكية لكن من المؤكد أنها تحتضن أيضا شعوبا وحركات حية تجود بما لديها على المقاومة، وتوفر لها الملاذات الآمنة عند اللزوم. كان من المفترض أن تنسحب القوات الأمريكة في يوليو المقبل حسب الخطط الموضوعة منذ سنوات، ولكن ضراوة عمليات المقاومة، وتكبيدها القوات الغازية خسائر كبيرة، وحرمانها بالتالي من تحقيق النصر النهائي في التوقيت المحدد، إضطرت قوات الغزو إلى تأخير خطط إنسحابها، بل طلبت دعما إضافيا تمثل في 30 ألف ضابط وجندي أمريكي تم إرسالهم في ديسمبر من العام الماضي، وحين حانت ساعة المراجعة للإستراتيجية الأمريكية في أفغانستان نهاية الأسبوع الماضي إعترف أوباما بتعثر قواته مدعيا أن "هناك تقدما ولكن بتكلفة عالية جدا من حياة رجالنا ونسائنا الجنود" حسب وصفه في خطاب المراجعة. من علامات التراجع الأمريكي أيضا في هذه المراجعة عدم شن هجوم كاسح على حركة طلبان كما جرت العادة في الخطابات السابقة، وهو ما يعني تسليما بقوة ونفوذ طالبان في السيطرة على جزء كبير من البلاد، وهو ما يعني أيضا التمهيد للدخول في عملية تفاوض مع الحركة، وهو التفاوض الذي دعا ومهد له رئيس أفغانستان حامد كرزاي نفسه، وكيف لا تسعى أمريكا للتفاوض مع الحركة، وهي باتت تسيطر على ثلثي افغانستان تقريبا، وتمثل تهديدا مستمرا للثلث الباقي، وتحرم أقوى دولة في العالم من تحقيق خططها في إحراز نصر سهل وسريع؟!. لقد كان هدف الغزو الأمريكي لأفغانستان هو القضاء على تنظيم القاعدة، وحركة طالبان واقامة حكومة مستقرة مواليه له في أفغانستان، لكنه لم يستطع تحقيق ايا من الأهداف الثلاثة بعد مرور تسع سنوات، فتنظيم القاعدة لايزال قائما رغم قتل عدد من قياداته، بل إنه توسع بشدة خارج أفغانستان في باكستان واليمن والسعودية، والعراق، والمغرب العربي، وحركة طالبان كما ذكرنا صارت تسيطر على ثلثي أرض افغانستان تقريبا، وحكومة كرازاي العميلة لاتنعم بأي نوع من الإستقرار أو القبول الشعبي، وينخر فيها الفساد، وهكذا نستطيع أن نقول بكل ثقة ان ما حدث هو تراجع لامراجعة للإستراتيجية الأمريكية، وهذه بقعة ضوء في منطقة تمتلئ بالظلام.