سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الأحد 15 يونيو 2025    جيش الاحتلال الإسرائيلي يعلن اعتراض 7 طائرات درونز    باريس سان جيرمان يبدأ مشواره بمونديال الأندية أمام أتلتيكو مدريد الليلة    ريبيرو: أهدرنا العديد من الفرص أمام إنتر ميامي    وزارة التعليم: الأسئلة المتداولة لامتحان الدين بالثانوية العامة لسنوات سابقة    طلاب الثانوية الأزهرية بشمال سيناء يؤدون الامتحانات في اللغة الأجنبية الأولى    سعر صرف الدولار في البنك المركزي والبنوك صباح اليوم الأحد    الأردن يعلن إعادة فتح مجاله الجوي بعد إجراء تقييم للمخاطر    أولياء الأمور ينتظرون طلاب الثانوية العامة أمام لجان الامتحانات فى أسوان    ثانوية عامة 2025.. إجراءات أمنية مشددة على أبواب لجان عين شمس    حظك اليوم الأحد 15 يونيو وتوقعات الأبراج    الجيش الإسرائيلى: اعترضنا 7 مسيرات انقضاضية إيرانية خلال الساعات الأخيرة    طريقة عمل الحواوشي في البيت، غداء سريع التحضير وقيمته الغذائية عالية    «الجوع العاطفي».. هروب إلى الثلاجة!    طلاب الثانوية العامة 2025 يتوافدون على لجان الامتحانات لإجراء التفتيش الإلكتروني    تعليم المنوفية: ممنوع إحضار الهاتف المحمول بلجان الثانوية العامة    وفاة ابن عم الفنان محمد الشرنوبي ونجل الموسيقار صلاح الشرنوبي    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الأحد 15 يونيو    برواتب تصل ل12 ألف جنيه.. العمل تعلن وظائف جديدة بشركة أدوية بالإسماعيلية    دعاء امتحانات الثانوية العامة.. أشهر الأدعية المستحبة للطلاب قبل دخول اللجان    أسعار الخضروات والأسماك والدواجن اليوم الأحد 15 يونيو    اليوم.. مجلس النواب يناقش مشروع قانون الموازنة العامة للدولة للعام المالي الجديد    8 قتلى و207 مصابا في هجومين صاروخيين شنتهما إيران على إسرائيل    "زيزو الأعلى".. تعرف على تقييمات لاعبي الأهلي خلال الشوط الأول أمام إنتر ميامي    «المركزى» يُقر خطة تحويل «إنكلود» لأكبر صندوق إقليمي في التكنولوجيا المالية    محافظ قنا يشارك في الاحتفالية الرسمية لاستقبال الأنبا إغناطيوس بالمطرانية    جيش الاحتلال الإسرائيلي يستهدف مقر منظمة أبحاث دفاعية إيرانية    حارس إنتر ميامي الأفضل في افتتاح مونديال الأندية أمام الأهلي    مقتل ثلاثة على الأقل في هجمات إيرانية على إسرائيل    مجدي الجلاد: الدولة المصرية واجهت كل الاختبارات والتحديات الكبيرة بحكمة شديدة    السينما والأدب.. أبطال بين الرواية والشاشة لجذب الجمهور    ذكريات مؤثرة لهاني عادل: كنت بابكي وإحنا بنسيب البيت    رقم تاريخي ل زيزو مع الأهلي ضد إنتر ميامي في كأس العالم للأندية    متى تبدأ السنة الهجرية؟ هذا موعد أول أيام شهر محرم 1447 هجريًا    «زي النهارده».. وفاة وزير الداخلية الأسبق النبوي إسماعيل 15 يونيو 2009    تجاوز 63%.. مؤشر تشغيل القروض للودائع يواصل التحليق لمستويات غير مسبوقة    اليوم.. الأزهر الشريف يفتح باب التقديم "لمسابقة السنة النبوية"    الموعد المتوقع لإعلان نتيجة الدبلومات الفنية 2025؟.. رابط الاستعلام برقم الجلوس    سبب دمارًا كبيرًا.. شاهد لحظة سقوط صاروخ إيراني في تل أبيب (فيديو)    "رفقة سواريز".. أول ظهور لميسي قبل مباراة الأهلي وإنتر ميامي (صورة)    أعراض السكتة القلبية، علامات صامتة لا يجب تجاهلها    المصرية للاتصالات وي تتلقى عروضاً لتزويد عدة مؤسسات بتكنولوجيا الجيل الخامس    الجلاد: الحكومة الحالية تفتقر للرؤية السياسية.. والتعديل الوزاري ضرورة    السفارة الأمريكية في البحرين تدعو موظفيها إلى توخي الحذر عقب الهجوم على إيران    بداية العام الهجري الجديد 1447.. عبارات مميزة لرسائل تهنئة وأجمل الأدعية    القانون يحظر رفع أو عرض العلم المصرى تالفا أو مستهلكا أو باهت الألوان    ضبط كوكتيل مخدرات وأسلحة آلية.. سقوط عصابة «الكيف» في قبضة مباحث دراو بأسوان    "العسل المصري".. يارا السكري تبهر متابعيها في أحدث ظهور    كهرباء قنا تفتتح مركزًا جديدًا لخدمة العملاء وشحن العدادات بمنطقة الثانوية بنات    بمشاركة 20 ألف.. مستقبل وطن يُطلق مؤتمر شباب الدلتا بالإسكندرية    دون أدوية أو جراحة.. 5 طرق طبيعية لتفتيت وعلاج حصوات الكلى    ضمن مبادرة "100 مليون صحة".. صحة الفيوم تقدم خدمات المبادرات الرئاسية لأكثر من 18 ألف مواطن خلال عيد الأضحى    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 15-6-2025 في محافظة قنا    سر دموع عبد الفتاح الجرينى على الهواء فى "صندوق الذكريات" ب"آخر الأسبوع"    كأس العالم للأندية| «ريبيرو» يعقد محاضرة فنية للاعبي الأهلي استعدادًا لمواجهة إنتر ميامي    جامعة بدر تفتح باب التقديم المبكر بكافة الكليات لطلاب الثانوية العامة والأزهري والشهادات المعادلة    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    رئيس هيئة الرقابة النووية والإشعاعية السابق: لا تأثيرات لاستهداف المنشآت النووية الإيرانية على مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخارجية الأمريكية حاولت تضليلنا حتي تتمكن إسرائيل من توجيه ضربة مضادة في 8 أكتوبر!


أحمد أبو الغيط يكتب :
مهما أخذتنا دوامات الحياة اليومية فإنها لن تنسينا ملحمة المجد التي حققناها في 6 أكتوبر 37 .
معركة رد الاعتبار واستعادة الهيبة، وصورة الجندي المصري الذي بدا وكأنه اكتشف سيفه القصير الذي حقق النصر بعد أن فقد سيفه الطويل في 5 يونيو 76 بحسب التشبيه الذي يكتب عنه وزير الخارجية أحمد أبوالغيط في هذا المقال.
أبو الغيط في الساعات الأخيرة قبل البداية الأسطورية كان يعيش حالة من القلق الشديد علي بلاده.. كان لا يزال هذا الدبلوماسي الصغير الذي اختصته الأقدار بأن يعيش القلق في أقوي درجاته، ويلامس المجد من قمته.. حتي أنه كان يسجل الوقائع لحظة بلحظة.. وعندما تقرأ بتأنٍ سوف تكتشف إلي أي مدي كانت استباحة البعض لأقوي إنجاز حققناه في العصر الحديث.
في هذا المقال الذي سبق أن نشرته الزميلة الأهرام علي حلقتين، ونعيد نشره لأهميته يصحح أبوالغيط الكثير من الأخطاء التي حاول البعض إلصاقها بالأداء الاستراتيجي، ورد الاعتبار لأسماء فعلت الكثير جدا حتي يتحقق هذا الانتصار، وحاول هذا البعض تشويهها.
كنت أسير صباح السبت 6 أكتوبر 73 ذلك اليوم المشهود في تاريخ مصر الحديث مع أحد أصدقاء العمر الأخ العزيز أحمد ماهر السيد، نتحدث في هدوء في حديقة (قصر عبد المنعم)، وهو في الحقيقة فيلا صغيرة تقع في منطقة مصر الجديدة بالقرب من شارع القبة، ويطل عليها الكثير من المنازل السكنية، وقد لاحظنا أن الكثير من المواطنين يراقبوننا من شققهم وينظرون إلينا بالكثير من الاهتمام بسبب هذا الظهور المفاجئ لبعض رجال الحرس الجمهوري في حديقة الفيلا وحولها، وظهور عدد كبير من الموظفين المدنيين وما صاحب كل هذا الظهور من ضجيج لعمال نظافة وآخرين يصلحون أسلاكا تليفونية أو يحاولون استبدالها بجديدة قادرة علي تحقيق الاتصال الجيد بهذا (القصر) وتمكينه من أن يستخدم مقرا لإقامة طاقم مستشار الأمن القومي المصري، السيد محمد حافظ إسماعيل، والذي كان مطلوبا منه وقتذاك أن يساعد الرئيس السادات في إدارة الشق السياسي الدبلوماسي لضربة أكتوبر 73.
كنت وأحمد ماهر السيد نتناقش عما نعد له وما يمكن أن يسفر عنه هذا العمل العسكري القادم الذي أعددنا له وشهدنا التحركات الدبلوماسية والسياسية الموازية له والمتسقة معه، وكان ينتابنا في هذا اليوم الكثير من الترقب.. وربما الوجل لما هو قادم أو غير قادم.. لأننا ومع كل اطلاعنا علي الجهد المبذول والتحضيرات الجارية والإعداد المتعمق لكل شيء، وكان هناك الكثير فعلا مما جري الإعداد له وشاركت فيه كل منظومة الأمن القومي وعناصره العاملة مع حافظ إسماعيل (مجموعة طيبة من شباب مصر من الدفاع / المخابرات العامة / الداخلية / الخارجية)، فإننا لم نكن علي ثقة كاملة بأن العمل العسكري فعلا قادم وأننا علي وشك الوثوب علي خط بارليف وبدء عملية عسكرية كبري تضع مصر فيها كل قدراتها وقد تسفر عن نجاح عسكري وسياسي ودبلوماسي كبير أو خسارة فادحة تأخذ مصر إلي وضع متردٍ غير مسبوق في تاريخها طوال القرن العشرين.
المقامرة
لقد كانت مقامرة كبيرة أعد لها بكل الحنكة والاقتدار وتم التكتم عليها وتحقيق الخداع الاستراتيجي لها بمهارة عالية.. وأقول مقامرة لأن حقيقة الأمر أنه ورغم أن مصر حشدت مئات الآلاف من أبنائها لهذا العمل العسكري الكبير إلا أننا يجب أن نعترف أن إسرائيل كانت عندئذ تتفوق علي مصر وسوريا من حيث إمكانيات السلاح وبخاصة القوات الجوية وذلك في ضوء الإمداد الأمريكي الغزير لها بهذه الأسلحة.. إلا أن الاستراتيجية المصرية / السورية المشتركة فرضت علي إسرائيل أن تقاتل علي جبهتين إحداهما في أقصي الشمال والأخري علي جبهة قناة السويس مما فرض عليها توزيع قواتها وإمكانياتها وبذا حققنا عدم إمكانية التعرض لطرف عربي واحد وفقدان التفوق الإسرائيلي في نهاية المطاف.
ورأينا سيارة السيد / حافظ إسماعيل وهي تقترب من البوابة الخارجية للقصر، وكانت سيارة مرسيدس سوداء، موديل أواخر الستينيات ثم رأينا حافظ إسماعيل بقوامه الممشوق ووجهه الجاد والحاد يخرج متجها وبسرعة إلي الفيلا لكي يتسلق سلالمها ويدلف إلي داخلها. وقال لي أحمد ماهر.. ألا تلاحظ شيئا يا أحمد.. فقلت ماذا ؟.. جديته الصارمة أم السرعة التي دخل بها إلي القصر متجاهلا اثنين من معاونيه المباشرين (ماهر وأبو الغيط) الواقفين بالحديقة ؟.. والمؤكد أنه لاحظ وجودهما. فقال ماهر: إنه يمسك في أصابعه بسيجارة ونحن في شهر رمضان ؟... ما هذا الخطب الكبير الذي يجعله يفطر في هذا اليوم.. وأسرعنا سويا للدخول إلي القصر لكي نبدأ يوما من العمل في هذا المقر الجديد لنا والذي شغلناه فقط في مساء اليوم السابق علي الحرب 5 أكتوبر، والذي لم نكن علي اطلاع بدهاليزه وحجراته وأرقام تليفوناته الداخلية والخارجية وغير ذلك من احتياجاتنا.
ورأينا الدكتور عبد الهادي مخلوف مدير مكتب مستشار الأمن القومي يتحرك في طريقه إلي الدخول إلي مكتب حافظ إسماعيل بالدور الثاني للفيلا.. ويغيب نصف ساعة ثم يخرج قائلا لماهر ولي، المستشار يرغب في رؤيتكما وكنا نطلق علي حافظ إسماعيل لقب المستشار، فأخذت نوتة صغيرة لكي أكتب عليها ما قد يرغب في التوجيه به ودخلنا مسرعين لكي لا نتركه ينتظر طويلا. البيان
وأجدني اليوم أتذكر وبصفاء أنه، أي حافظ إسماعيل، وقد خلع جاكت البدلة وتحدث إلي ماهر قائلا.. أرجو أن ترسل يا ماهر هذا المظروف المغلق إلي الدكتور أشرف غربال، مساعد مستشار الأمن القومي، والذي كان مكلفا بالتغطية الإعلامية عندئذ للنشاطات القادمة ومتطلبات إدارة الأزمة ومع تركيز محدد علي الولايات المتحدة والقوي الغربية الأوروبية الأخري، وأضاف حافظ إسماعيل،: إن الدكتور أشرف يتواجد حاليا مثلما تعلمان في مبني التليفزيون المصري بماسبيرو ولكي يدير المواجهة الإعلامية من هناك مؤكدا علي ماهر آلا يقوم أشرف غربال بفتح المظروف قبل سعت 1330 من هذا اليوم المشهود وأن يأمر الإذاعة والتليفزيون، بإذاعة محتوياته مشيرا إلي أنه سوف يقوم بالتحدث تليفونيا مع الدكتور غربال لترقب وصول هذا المظروف المغلق.. وكان الوقت عندئذ حوالي سعت 1030 أو قبل ذلك بقليل.
ومضي حافظ إسماعيل يقول لنا (أحمد ماهر السيد وأنا) يوجد بالمظروف (بيان) مصري صادر عن قيادة القوات المسلحة المصرية بأن الطيران الإسرائيلي قام سعت 1330 اليوم بمهاجمة مواقع مصرية بالبحر الأحمر وعلي الجبهة المصرية وأن القوات المسلحة المصرية قد قامت بالرد علي كامل المواجهة بعمليات عسكرية مضادة.. واستفسر ماهر عما إذا كانت العمليات من جانبنا ستبدأ سعت 1330 .. فعلا وهي سعت فتح المظروف وإذاعته بالتليفزيون والراديو.. فأجاب مستشار الأمن القومي، أن مصر ستقوم بعملياتها العسكرية ابتداء من سعت 1405 فأكد أحمد ماهر أنه يستشعر بعض القلق وعدم الفهم لأننا بذلك نكشف للعدو نوايانا قبل نصف ساعة من بدء العمل المصري العسكري المسلح ضد إسرائيل في سيناء، ففكر حافظ إسماعيل لبرهة في الأمر، وقال له لديك حق.. فليكن الإعلان المصري بعد سعت 1400 وليس قبلها..
خرجت من حجرة مكتب حافظ إسماعيل وينتابني قلق عميق علي بلادي.. وعلي أصدقائي من العسكريين وعلي كل مستقبلنا شاعرا بخشية حقيقية من أن يتكرر ومرة أخري هذا اليوم التعيس الأسود في تاريخنا الحديث وهو يوم 5 يونيو 67 وتوابعه من مذلة وضعف لنا جميعا وأخذت أطمئن نفسي بأن قواتنا المسلحة قد أعدت نفسها إعدادا جيدا وأن ضربة يونيو لنا غير قابلة للتكرار وأن هذه المرة سنقوم نحن بمفاجأة العدو وقد تدربنا تدريبا شاقا وتعلمنا من الدروس المستفادة للهزيمة وجهزنا جيشنا تجهيزا مناسبا.
والتقيت مع خروجي من المكتب بالسيد عبد الفتاح عبدالله وزير الدولة عندئذ الذي كان سيقيم معنا بالقصر، ولكن بمهمة مساعدة الرئيس السادات الموجود بقصر آخر أكثر رونقا وجمالا، ألا وهو قصر الطاهرة، ولم أكن أعلم بالمهمة التي كلف بها وسبب إقامته معنا وإن كانت الأيام التالية للمعركة قد أوضحت أن الرئيس السادات كان يريده لحضور كل جلسات العمل واللقاءات والمقابلات التي سيجريها بالطاهرة أثناء العمليات العسكرية القادمة وما يصحبها من عمل دبلوماسي وسياسي.
ويجب أن أوضح هنا أن الدور الثاني للقصر كان به حجرتا نوم إحداهما خصصت لحافظ إسماعيل والأخري للسيد عبد الفتاح عبدالله.. أقول حيّاني عبد الفتاح عبدالله تحية صارمة كعادة كل العسكريين عندما يقتربون من حدث كبير.. وقد رأيت ذلك كثيرا في حياتي من والدي اللواء طيار علي أحمد أبو الغيط.. ومضي في طريقه قائلا للدكتور عبد الهادي مخلوف الذي كان يقف بالصالة المطلة علي كل حجرات الدور الثاني.. سوف أذهب يا مخلوف إلي الطاهرة للقاء الرئيس.
موقع الرئيس
ومع القلق الذي انتابني خشية من هذه الذراع الطويلة لإسرائيل والتي كنت أستشعر ورغم كل الإعداد وحرب الاستنزاف وحائط الصواريخ أننا قد نتعرض لها مرة ثانية.. فقد أحسست إحساسا غير مريح بأن وجودنا في هذا الموقع يعكس خشيتنا من تعرض مكاتبنا الرئيسية في قصر عابدين للهجوم عليها إلا أن ما ضايقني ولم أستشعر الراحة تجاهه أن الرئيس السادات قرر الإقامة في قصر الطاهرة بمصر الجديدة.. بالقرب من مراكز قيادة عمليات الجيش في صحراء مصر الجديدة ومدينة نصر.. ووددت أن أراه بدلا من ذلك في موقع أو مكان للإقامة أكثر تواضعا.. وقد كشفت الأيام التالية أن اختيار الرئيس لهذا الموقع جاء علي أساس رغبته أيضا في إجراء مقابلات سياسية ودبلوماسية عالية المستوي مع رؤساء الدول أو سفرائها الذين قد يحتاج الأمر إلي الالتقاء بهم أثناء فترة هذا الصدام المسلح.
ولقد قرأت خلال الأيام التالية الكثير من مقابلات الرئيس السادات مع سفراء الدول وفي مقدمتهم بريطانيا / إيران / فرنسا وروسيا.. وقد سجلها عبد الفتاح عبد الله كلها وكثيرا ما كلفت من د. مخلوف بالإشراف علي كتابتها وموافاة الجهات المختلفة بالدولة بها.
وكانت مقابلات تعكس ثقة الرئيس وإيمانه بما سوف تقوم به مصر من عمل عسكري واثقا بأنه سبق العدو إلي (الحشد) وبالتالي لن يستطيعوا اللحاق بنا. علي أي الأحوال سألنا الدكتور مخلوف.. هل قال لكما المستشار ما سوف يجري خلال ساعات.. وأجبنا: بنعم.. فقال علينا إذن أن نعد أنفسنا.. ثم طلب أن نجتمع جميعا.. أعضاء هيئة المكتب.. فاروق بركة / إيهاب وهبة.. أحمد ماهر.. أحمد أبو الغيط.. ماهر خليفة.. صلاح شعراوي.. جمال بركات، وغيرهم من هذه المجموعة المتميزة من العاملين في حقل الأمن القومي لتوزيع المهام والمناوبات والعمل خلال الساعات ال 24 لليوم.. مع تنظيم الاتصالات وأسلوب عرض التقارير وتعليمات استخدام التليفونات والأسماء الكودية للشخصيات الرئيسية للدولة، والتي أعدها مساعد آخر لمستشار الأمن القومي السفير المتميز عثمان نوري.. وجلسنا ننتظر.. والكل يقرض أظافره.. ويترقب. ومرة أخري أقول إن القلق كان يعتصرني، الأمر الذي سجلته في يوميات كنت أستشعر أهمية كتابتها لتسجيل هذه الأيام الحاسمة في تاريخنا.. وكنت قد سجلت عدة فقرات مساء يوم 5 أكتوبر وبعد احتلالنا لموقعنا في القصر.. بقولي سعت 2145 (من الواضح أن شئون التنظيم ضعيفة للغاية ولم نكلف حتي الآن بأي مهام.. ولا أستشعر التفاؤل وأخشي أن يتعرف العدو علي تحضيراتنا، خاصة أن الكثيرين الآن يطلعون علي نيتنا في توجيه الضربة).. ثم كتبت أيضا (أننا يجب أن نبدأ فورا وإلا فسوف يجهضنا العدو).. (حاولت النوم ولكنني قلق للغاية.. وواضح أنني عصبي جدا).. كان هذا ما سجلته مثلما سبق القول في يوميات للحرب مساء يوم 5 أكتوبر.
البيان الأول
علي أي الأحوال مضينا ننتظر.. ومرت الساعات والدقائق وكأنها دهر.. وما جاءت سعت 1400 إلا وانطلق البيان الأول، والذي سبق أن أرسله حافظ إسماعيل إلي أشرف غربال؛ لكي يذاع حسب الاتفاق من الراديو والتليفزيون..
وفي خلال هذه الساعات الثقيلة بدأت الأمور تتحسن تدريجيا من حيث قدرتنا علي إجراء اتصالات تليفونية والنجاح في الحصول علي إمكانيات للاتصالات لم تكن متوافرة في الدولة المصرية عندئذ والتي كانت أجهزة تليفوناتها وغيرها في حالة يرثي لها. وبدأت العمليات بالضربة الجوية، وتبعتها واتسقت أيضا معها قصفات المدفعية عبر القناة وكتبت في اليوميات:
(لا أصدق السرعة التي يتم بها العبور رغم حجم القوات.. التقارير المتواردة إلينا من الجيش تقول: إن تواجد القوات حاليا هو في حدود 2000 ياردة.. وتقديري أنه يجب توسيع العمق وإلا فسوف يهدد العدو رأس الكوبري.. رد فعل العدو لن يأتي إلا غدا الأحد أو حتي الاثنين 8 أكتوبر، الجميع بدأ يستشعر التفاؤل إلا أنني كنت من جانبي آخذ جانب الحذر وهو النهج الأنجح في مثل هذه الصدامات المسلحة).
والحقيقة أنه كانت لي أسبابي ومبرراتي لهذا القلق الحاد، وحيث كانت وكالات الأنباء قد نقلت من سوريا يوم 4 أكتوبر أن الروس يقومون بترحيل عائلات الخبراء من دمشق وبأسلوب ظاهر وبشكل كامل للعيان، كما أن السفير الروسي بالقاهرة حضر لمقابلة حافظ إسماعيل يوم 4 أكتوبر ظهرا، وحيث طرح عليه استفسارا مباشرا وبتعليمات من موسكو عما إذا كانت مصر وسوريا ستقومان بكسر وقف إطلاق النار مع إسرائيل. وأعتقد أن حافظ إسماعيل وقد فوجئ بالسؤال.. وفكر مليا علي حد قول زميلي فاروق بركة الذي سجل المقابلة.. وبعد صمت استغرق ما يقرب من نصف دقيقة قال للسفير الروسي بأنه ينصح أن يتحدث السفير مع الرئيس السادات غدا في الموضوع.. وتقديري أن حافظ إسماعيل كان يحاول إخفاء الأمر وخداع الجانب الروسي حول توقيت العمليات. من هنا كانت خشيتي من انكشاف تحضيراتنا ومن ثم احتمال تعرضنا لضربة إجهاض إسرائيلية.
إلا أن السفير الروسي الذي كان علي اطلاع كبير وعميق بالشأن المصري وما يدور في مصر من تدابير.. أبلغ موسكو بما يرصده.. من هنا عاد في اليوم التالي الجمعة 5 أكتوبر حاملا رسالة من القيادة الروسية إلي الرئيس السادات.. ولاحظت أن الترجمة العربية المصاحبة لها كانت تتسم بالركاكة الشديدة، وبشكل فاجأني كثيرا لما كنا نعلمه من تمكن الكثير من الدبلوماسيين الروس باللغة العربية.. علي أي الأحوال جاءت الرسالة لكي تحذر مصر من مغبة العمل العسكري ضد إسرائيل، وأن القدرات المصرية غير متكافئة مع قدرات إسرائيل وأن مصر قد تعرض نفسها لهزيمة جديدة ساحقة إذا ما مضت مع سوريا في الهجوم علي الجيش الإسرائيلي المتحصن في خط بارليف.. وأن أي هزيمة ستؤدي إلي وضع يصعب لمصر عندئذ تجاوزه.
مبررات القلم
من هنا ولكل تلك الأسباب.. كان قلقي الحاد وتشاؤمي الشديد.. ولاشك أن كتابات العسكريين الإسرائيليين وما صدر عن إسرائيل بعد الحرب، يكشف أن قلقي كانت له مبرراته إذ وصلت التقارير المخابراتية للإسرائيليين يوم 5 أكتوبر وفجر 6 أكتوبر بما يؤشر إلي أن مصر وسوريا علي وشك توجيه الضربة العسكرية وكسر وقف إطلاق النار وأن علي إسرائيل أن تتحرك وفورا وإلا تعرضت لخسائر فادحة من العرب.
واستقر رأي الإسرائيليين وقتذاك علي انتظار الضربة العربية القادمة مثلما يرصدونها إن وقعت فعلا ثم الرد عليها.. وكان هذا هو نفس الخطأ القاتل الذي وقع فيه الرئيس عبدالناصر عندما قرر تلقي ضربة إسرائيل في يونيو 67 وعدم البدء بالأعمال المسلحة من ناحية مصر.
علي أي حال ذهبت في نهاية نوبتجية اليوم السبت (6 أكتوبر) سعت 2300 للنوم في منزلي بمصر الجديدة تاركا مجموعة أخري من الزملاء يعملون مع السيد / حافظ إسماعيل بالقصر.. ويجب أن أقول هنا أنه وطوال هذه الساعات الطوال منذ سعت 14.00 يوم 6 أكتوبر وحتي موعد المغادرة إلي منزلي في مصر الجديدة كان حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومي في اتصال دائم إما مع الرئيس السادات لإخطاره بكل وقائع تطورات الوضع الدولي والسياسي، خاصة الاتصالات الواردة من الأمريكيين أو الاتصالات مع الدكتور محمد حسن الزيات وزير الخارجية الذي كان متواجدا في نيويورك وتلقي من كيسنجر هذا الاتصال الشهير فجر يوم 6 أكتوبر بتوقيت الولايات المتحدة طالبا طمأنة مصر من عدم وجود نوايا إسرائيلية ضد قواتنا المسلحة، وذلك في ضوء ما وصل إليهم من معلومات بأن مصر تحشد قواتها علي خط الجبهة.. وهي الرسالة التي نقلها حسن الزيات إلي حافظ إسماعيل، ربما في نفس توقيت بدء العمل العسكري المصري عبر القناة.
وأقول: إن حافظ إسماعيل كان يمارس دوره بقدر كبير من الهدوء والسيطرة والتيقظ وبشكل أكد لدي خبرته الكبيرة وتجربته العريضة ويجب أن أعترف هنا أنه ورغم صغر سني ودرجتي بالمقارنة به فقد كان لي معه الكثير من الأحاديث والمناقشات التي تناولت تجارب الدول ومسئوليها في حروب متعددة وفي مقدمتها الحرب العالمية الثانية والتي كان لحافظ إسماعيل كتابات فيها أمتعتني كثيرا في سنوات الخمسينيات وقبل خدمتي تحت رئاسته في السبعينيات.. وأقول أن قراءته للتاريخ العسكري والاستراتيجية العامة للدول التي دخلت هذه النزاعات التاريخية كان لها ولاشك تأثيرها في أسلوبه المتعمق في أدائه لمسئولياته ومثلما تتطلبها المواقف.
تقارير الليل
علي أي الأحوال استيقظت مبكرا جدا صباح الأحد 7 أكتوبر.. وأسرعت بالمرور علي أحمد ماهر الذي كانت تجمعني معه سيارة خدمة واحدة وذهبنا إلي قصر عبد المنعم.. وأخذت أطالع تقارير المساء والصباح المبكر وأصدقكم القول أن شغلي الشاغل كان في التفكير فيما سيفعله سلاح الطيران الإسرائيلي بقواعدنا الجوية وبقواتنا في الجبهة..
وأخذت أقرأ تقارير الليل وفجر اليوم التالي (7 أكتوبر) وبدأت الطمأنينة تدخل قلبي.. لقد حاول الطيران الإسرائيلي ضرب قواعدنا الرئيسية.. وتصدت له مقاتلاتنا التي كانت تنتظره ودارت معارك.. وفقد الإسرائيليون المبادأة.. وقدرة السيطرة علي سماء مصر.. و كتبت في اليوميات:
خسائر القواعد الجوية غير محسوسة وقواتنا الجوية ذات تأثير كبير.. - رءوس الكباري لازالت ضيقة جدا وهي رؤوس الفرق المشاة 18/2/16/7/19.. خمس فرق مشاة. - يجب توسيع رؤوس الكباري وإلا فإن الضربات القادمة للعدو يمكن أن تضعنا في مأزق وتجهض عملياتنا.
- عمق الشريط حوالي 2/4 كم والجيش الثاني أحسن حالا من الجيش الثالث.. ولدينا 004 دبابة علي الأقل في شرق القناة. وقد اضطر الجيش الثالث لاستخدام جسور الجيش الثاني لعبور دباباته حيث كان السد الركامي الإسرائيلي في الجنوب أكثر تماسكا وصلابة من الشمال في مواجهة مدافع المياه.
- وصلت برقية الدكتور الزيات عن اتصال كيسنجر به في نيويورك مطالبا بعودة القوات المصرية إلي غرب القناة، ومشيرا أيضا إلي أن استمرار مصر في عملياتها العسكرية قد يكون له عواقب ضارة عليها إذ قد تتحول العمليات إلي غير صالحها.. أي صالح مصر.. وتقديري أن أمريكا يهمها الآن إتاحة الفرصة لإسرائيل بتوجيه الهجوم المضاد الذي سيأتي ربما يوم الاثنين 8 أكتوبر حسب اطلاعي علي التقارير العسكرية.
- وبانتهائي من قراءة تقارير المساء 6 أكتوبر والفجر 7 أكتوبر.. بدأنا يوما جديا من العمل الجاد تحت رئاسة هذا الرجل.. وكنت أحس طوال هذه الساعات الأربع والعشرين التي مضت منذ قيام حافظ إسماعيل باطلاعنا علي توقيت الهجوم المصري ثم وقوعه.. بأن الأمر وكأنه دهر كامل وليس مجرد 42 ساعة من يوم كامل من أيام حرب أكتوبر العظيمة.
أهداف مصر
يوم الثلاثاء 27 أكتوبر الذي استقر فيه وقف القتال ثم دخل حيز التنفيذ فعلاً في الساعات الأولي لليوم التالي 28 أكتوبر، حيث سكتت المدافع وانتهت المعركة التي أتاحت لمصر تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية في صدامها المسلح مع إسرائيل وذلك بغض النظر عن وقوع الثغرة أو حصار الجيش الثالث وما قيل أو قد يقال في مستقبل الأيام عن أسلوب التفاوض وأداء المفاوض المصري عندئذ.
إن المؤكد، وقد تبين هذا الأمر الجميع في حينه، أن مصر استطاعت مع توقف القتال استعادة التوازن الاستراتيجي في مواجهة إسرائيل علي مستوي الجبهة وكذلك الإقليم.. وهو التوازن الذي كان قد فقد لأكثر من ستة أعوام منذ هزيمة يونيو 67 وفرضت مصر وبثقل قواتها المسلحة أن تدفع بالولايات المتحدة أخيراً لأن تتحرك وبشكل جاد لتحقيق تسوية سياسية قد تكون طالت بعض الشيء، إلا أنها أدت إلي استعادة مصر سيطرتها وملكيتها الكاملة لسيناء وبالعودة إلي خط الحدود الدولية لعام 1906 بين مصر وفلسطين (إسرائيل).
ولا شك أن تواجد قوات مصرية مسلحة، ونشاطها وحيويتها وقدرتها علي العمل ضد إسرائيل.. ومع توافر قوات جوية أثبتت قدرتها وفاعليتها في المعركة.. وتمركز وحدات بحرية مصرية ذات تأثير وسيطرة علي جنوب البحر الأحمر.. كل ذلك في نهاية هذا الصدام المسلح يوم 28 أكتوبر 73 قد أقنعت الولايات المتحدة أن مصر يمكنها تكرار الصدام والعمل العسكري مرة أخري في أي وقت تراه أو تختاره.. ومن ثم اتجهت أمريكا إلي التحرك الجاد لأول مرة ومن خلال وزير خارجيتها كيسنجر نحو تفريغ شحنة الصدام المصري - الإسرائيلي المسلح والذي هدد العالم لعدة أيام في الأسبوع الأخير من أكتوبر 73 بصدام نووي بين القوتين العظميين عندئذ.. وبالتالي السعي إلي فتح الطريق أمام تسوية سياسية - ولو علي مراحل - حققت كل أهداف العمل المصري المسلح الذي اضطرت مصر إليه بعد محاولات فاشلة علي مدي عام 37 لاستخدام الدبلوماسية لتحقيق التحرك نحو هذه التسوية دون طائل، وأود أن أتناول بعض عناصر الجهد الدبلوماسي والعسكري المصري علي مدي عام 73 والذي قاد مصر ودفع بها إلي التعجيل بتنفيذ قرارها الحاسم في استخدام القوة كبديل عن الدبلوماسية لتحقيق تحرير أرض سيناء.
لقاء مع كيسنجر
وقد أعود بالقارئ الكريم إلي يونيو من عام 99 وعندما كنت مندوباً دائماً لمصر لدي الأمم المتحدة، إذ حضرت حفلاً دعت إليه منظمة بذور السلام وشارك فيه أيضاً جلالة الملك عبدالله الثاني والملكة رانيا.. وكذلك سفيرنا في واشنطن، الصديق العزيز أحمد ماهر، ومثلما هو معروف فإن هذه المنظمة أنشأها أحد اليهود الأمريكيين الذي روج - بعد توقيع اتفاق أوسلو - في عام 93 لفكرة إتاحة الفرصة لشباب إسرائيل وفلسطين وغيرهم للالتقاء في معسكرات لعدة أسابيع سنوياً لبناء علاقة سلام صحية والتعرف علي بعضهم البعض.. وكانت الظروف عندئذ تسمح بمثل هذا الفكر.
ووجدت بالحفل ما يقرب من أكثر من ألف شخص.. وأخذت أتحرك بين المدعوين أتحدث وأجامل وأسعي للتعارف كعادة الدبلوماسيين بحثاً عن فرصة للوقوع علي شخصية كبيرة نتعرف عليها أو معلومة ذات أهمية نحصل عليها، وفجأة وقع نظري علي هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق ومستشار الأمن القومي أيضاً في إدارة الرئيس نيكسون الأولي، واقتربت منه وقدمت نفسي له، وكان يقف وسط مجموعة من الأمريكيين المدعوين.. فظهر عليه الاهتمام وقال بلهجته الإنجليزية الثقيلة التي تعكس بطبيعة الحال، خلفيته الألمانية، إنه يسعده التعرف علي سفير مصر التي يكن لها كل الاحترام مضيفاً أنه يقدر أن هذا البلد هو المفتاح الحقيقي دائماً للشرق الأوسط والمنطقة العربية، كما أنها - مصر - هي القادرة علي إعطاء العالم زعماء كباراً قد تختلف أو تتفق معهم إلا أنهم يفرضون الاحترام علي الجميع لما لبلدهم من ثقل وقيمة.
وأخذت أتجاذب مع كيسنجر جوانب الحديث الهادئ مشيراً إلي أن الكثير من الكتب التي كتبها فتحت الطريق أمامي للمزيد من المعرفة بحقائق العلاقات الدولية، والاستراتيجيات العسكرية، وبخاصة النووية منها، ومشيراً إلي عدة كتب له، كنت قد قرأتهاعلي مدي الأعوام، والعقود السابقة، ومنها كتابه الشهير الحاجة للاختيار الذي بزغ اسمه بعد نشره كأحد المفكرين الأمريكيين في الاستراتيجيات النووية، ومن بينهم هولستتر، هيرمان كاهان، وماكسويل تيلور وغيرهم، وكذلك كتاباه عن سنوات البيت الأبيض مستشاراً للأمن القومي، 68 - 72 و»سنوات الفورة عندما كان وزيراً للخارجية 73 - .76
وظهر السرور والرضا علي وجه كيسنجر، خاصة عندما أشرت إلي كتابه عالم ما بعد 1815 وتوازن القوي بعد سقوط نابليون، وهي رسالة ماجستير كان كيسنجر قد أعدها في جامعة هارفارد في نهاية الأربعينيات بعد مشاركته في الحرب ضد ألمانيا، وأخذنا نتحادث ونتحادث لأكثر من نصف ساعة، كنا بمفردنا بعد أن ابتعدنا عن الجميع من الحاضرين لهذا الحفل.. وفجأة أطلقت قنبلتي نحوه.. إذ قلت له: أتعلم ياسيادة الوزير أن حديثك مع الدكتور الزيات في يوليو 1973 وقولك له ليس لدي وقت أضيعه علي الشرق الأوسط في الوقت الحالي خاصة أنه ليس لديكم قدرة علي تغيير علاقات و/ أو توازن القوي في المنطقة وليس في إمكانكم القيام بأي شيء حرباً.. كما أنكم لا تعترفون بضرورة دفع ثمن الهزيمة التي لحقت بكم.. وأضفت بقولي لكيسنجر أن حديثه هذا، وتصرفات أمريكا معنا ساهمت ودفعت أو عجلت بالقرار المصري بالذهاب إلي الحرب.
واستشعرت وبوضوح شديد حجم الصدمة وربما الانزعاج الذي ظهر علي وجه كيسنجر من استماعه لهذه الشهادة التي تعطي الانطباع وكأن كيسنجر كان يشجع المصريين علي هذا التوجه مع إسرائيل من خلال عمل عسكري.. ونفي بشدة أنه كان يسعي لدفعنا للعمل العسكري.. وإن كنت قد أكدت له أن هذه كانت خلاصاتنا من واقع اللقاءات التي أجراها معه الدكتور الزيات وغيره من مسئولي مصر.
ويجب هنا أن أسجل أن عام 73 ووصولاً إلي العمل العسكري المصري في أكتوبر من نفس العام كانت مصر خلاله تسعي إلي الاستمرار في بناء قدراتها العسكرية من ناحية (قاذفات مقاتلة جديدة + صواريخ أرض / أرض وغيرها مما استطاع الرئيس السادات إقناع السوفيت بتقديمها إلي مصر بصعوبة شديدة خلال هذا العام) أو محاولة تحقيق تسوية سياسية مع إسرائيل دون اللجوء للحرب من ناحية أخري وذلك عن طريق إيفاد حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي المصري في سلسلة مشاورات ولقاءات ومحاولات مع كيسنجر نفسه (مقابلات في ولاية نيويورك في فبراير 73 وكذلك مايو من نفس العام في بلدة خارج باريس، وهي كلها مقابلات أعدت لها المخابرات المركزية الأمريكية بالتعاون مع المخابرات المصرية التي كان حافظ إسماعيل رئيساً لها في عام 70) أو زيارات مهمة إلي كل من تشاوتشيسكو رئيس رومانيا الذي كانت تجمعه علاقات طيبة مع جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل أو تيتو، رئيس يوغسلافيا في أغسطس وحيث حاولت مصر تحقيق تفاهمات مع إسرائيل تؤدي إلي تسوية سياسية للنزاع مع طرح العديد من الخيارات في هذا الشأن.. وأخيراً المحاولة المصرية لطرح التسوية المقترحة مع إسرائيل من خلال الذهاب إلي مجلس الأمن في يوليو 73 والتي حصلت مصر أثناء هذا الجهد أمام المجلس علي 14 صوتاً مؤيداً لمشروع قرار قدمته وإن كان قد سقط باستخدام حق النقض من قبل أمريكا.. وتوقف جهد السلام المصري.. ووضح أننا نتجه إلي المواجهة المسلحة.
جبل الوثائق
علي أي الأحوال نفي كيسنجر بالكامل كل شروحاتي أو أن لقاءاته مع حافظ إسماعيل دفعت بنا إلي العمل المسلح، خاصة عندما أبلغنا في حينه أنه مشغول بالحرب والمفاوضات الفيتنامية في باريس وأنه لا وقت له يضيعه علي مسألة باردة وعناد مصري لعدم دفع ثمن هزيمة 67.. ويجب أن أقول إنني التقيت مع كيسنجر، مرة أخري، أثناء مناسبة اجتماعية في عام 2000 بنيويورك واقترب كيسنجر وقال إنه لايزال يرفض فكرة مسئوليته في تشجيع مصر للاتجاه للحل أو الحسم العسكري في عام 73 وتقديري شخصيا أن كيسنجر كان يرغب في نفي كل مسئولية عن الحرب وإلا اتهمته دوائر في بلاده بأنه جرض العرب علي العمل المسلح ضد إسرائيل.
يجب هنا أن أقفز علي فترة حرب 73 وصولاً إلي يناير / فبراير 74 عندما تقرر أن ينزوي حافظ إسماعيل عن مسئولياته نتيجة عناصر كثيرة ليست محل مناقشة بهذا المقال.. وطلب مني الدكتور عبدالهادي مخلوف، مدير مكتب مستشار الأمن القومي برئاسة الجمهورية أن أحضر إلي مكتبه.. وقال بصوته الهادئ: ياأحمد.. تعلم أنه يوجد ملحق بمكتبي في قصر عابدين، حجرة كبيرة بها إحدي أكبر الخزائن المسلحة التي توجد في مصر، وأن بها الكثير من المستندات بالغة الأهمية التاريخية، كما أنها أيضا ذات سرية عالية جداً.. مضيفاً: أننا وقد اقتربنا من نهاية خدمتنا مع المستشار حافظ إسماعيل برئاسة الجمهورية، فإنه يرغب في تكليفي بإعداد أرشيف كامل لهذه المستندات التي تعالج أوضاعاً داخلية مصرية وكذلك أوراقاً تتضمن الخطط المصرية السياسية أو العسكرية لحرب أكتوبر.. ما سبقها وما تم خلالها.. وأعطاني مهلة خمسة عشر يوماً لكي أنتهي من هذا الجبل من الثروة المعلوماتية والوثائقية.
ودخلت إلي الحجرة والخزينة.. وأخذت أرشف وأفتح الملفات وأقوم بالتقسيم والتوزيع.. ووجدت أنني وبدلاً من أن أعمل عدة ساعات كل يوم، فقد استغرقت في القراءة بنهم واهتمام لكل ما خفي عني وعن - ربما - بعض أعضاء مكتب مستشار الأمن القومي عدا السفير مخلوف وكذلك أحمد ماهر السيد.. ووقعت يدي علي هذا المحضر التاريخي الذي سجله السفير عثمان نوري مساعد مستشار الأمن القومي والسفير عبدالهادي مخلوف.. حول اجتماع بالغ الأهمية يوم 29 سبتمبر 1973 جمع الرئيس السادات وكل رجال القيادة المصرية ومنهم محمود فوزي - مصطفي خليل - ممدوح سالم - أحمد إسماعيل.. ودارت المناقشة التاريخية حول ما هو قادم حيث قال الرئيس إننا ذاهبون إلي الحرب وعلي الجميع الاستعداد لها.. وظهرت مواقف.. وذكر البعض أن مصر يمكنها أن تحاول مرة أخري أن تسعي لتسوية سياسية متفاوض عليها وأن علي مصر أن تتحسب من أوضاعها الصعبة وعلاقات القوي غير المتكافئة مع إسرائيل، ودار نقاش قرأته علي مدي صفحات ممتدة.. وقال الدكتور محمود فوزي وزير الخارجية الأسبق، الذي كان يشارك في الاجتماع.. إنه يقدر الحاجة للدخول إلي هذا الصدام المسلح.. وحكي للحضور قصة ذات بلاغة هائلة.. حيث قال إنه كان في اليابان دبلوماسياً صغيراً في الثلاثينيات وأنه كان يحصل علي دروس تدريبية في مبارزة الساموراي مستخدماً السيف الياباني الطويل والحاد.. وفي يوم ذهب إلي الدرس مرتدياً الملابس اليابانية للساموراي وحاملاً السيف الطويل في حزام ملابسه.. وقال له المدرب الياباني: أين السيف القصير.. أنت تحمل الطويل فقط والساموراي يحملون سيفين أحدهما طويل والآخر قصير يستخدمه عند الحاجة أو إذا ما فقد أو كسر سيفه الرئيسي.. وخلص محمود فوزي بقوله للحضور.. لقد فقدت مصر سيفها الطويل في عام 67 ولعلها قد استبدلته بسيف طويل آخر أكثر حدة.. أو لعلها تحمل السيف القصير فقط إلا أنها مثل الساموراي عليها أن تستخدمه لتحقيق أهدافها المطلوبة من عملها المسلح القادم.. ألا وهو هدف تحريك عملية السلام.. وخلق توازي عسكري وسياسي جديد مع إسرائيل يفرض عليها وعلي الولايات المتحدة أن تتفاعلا مع المطلب المصري في تحقيق الانسحاب الكامل من سيناء.. ودار حديث ممتد بين الحضور.
وقال حافظ إسماعيل في إحدي فترات هذا الاجتماع التاريخي.. إنه يقترح وفي ضوء خشية البعض من عواقب العمل المصري المسلح القادم أن نتحرك وبتدرج لعمليات مصرية عسكرية شبيهة بفترة حرب الاستنزاف وقبل تحقيق وقف إطلاق النار في يوليو 70 وأقترح مستشار الأمن القومي.. إجراءات عسكرية سياسية تقود إلي تسخين الجبهة المصرية دون التعرض لعواقب العمل العسكري الكبير.
ورد المشير أحمد إسماعيل علي وزير الحربية حينذاك بقوله.. إنه يختلف مع بعض الآراء التي قيلت.. وأنه يقدر ويحسب الموقف من خلال اقتناعه بأن إسرائيل لن ترد علي أي عمل عسكري مصري محدود أو تسخين للجبهة بعمليات محدودة لأنها لا تستطيع أن تتحمل ثقل تعبئة ممتدة أو استنزاف مستمر علي مدي شهور من خلال عمليات صغيرة هنا وهناك، خاصة وهم يرصدون أن الجيش والقوات الجوية المصرية قد زادت كفاءتهما علي مدي السنوات الثلاث لوقف إطلاق النار من يوليو 70 حتي سبتمبر 73 وأن إسرائيل بالتالي سوف تقوم بالتصعيد الفوري وبأقصي درجات العنف.
من هنا فإن أحمد إسماعيل يقترح ويري أن الأسلوب الأمثل لهذا العمل العسكري هو في توجيه ضربة رئيسية بالغة العنف من جانب الحشد المصري الهائل وعبر القناة ثم امتصاص الضربة الإسرائيلية المضادة والوقوف علي المواقع المصرية التي جري احتلالها من مناطق سيناء وما يستتبع ذلك من فرض لتسوية سياسية برؤية مصرية.. وتحدث الرئيس السادات في النهاية بقوله: فلنقم بما هو لازم لمستقبل البلد.. وحسم الموقف.. وجاء العمل العسكري يوم 6 أكتوبر.. وقد جسد هذا العمل المسلح وبكل وضوح واقتدار أن الرؤية المصرية.
مفاهيم صحيحة
الثاقبة تعكس كل المفاهيم الصحيحة التي كتب عنها كارل فون كلاوزفتز في القرن الثامن عشر من حيث إن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخري.. وأن الحرب يجب أن تسعي إلي استخدام أقصي درجات العنف المسلح لفرض الإرادة علي الخصم.. ثم أخيراً أن الدفاع.. وبعد العمل العسكري.. هو الشكل الأقوي في المعركة العسكرية.. وهي كلها عناصر لأفكار ناضجة نفذتها مصر وقواتها المسلحة باقتدار وتوازن منضبطين، وتبقي النقطة الأخيرة.. أن لكل حرب هدفاً سياسياً يسعي العمل المسلح لتحقيقه.. وفي حالة مصر وبأكبر قدر من الوضوح.. كان الهدف المصري من العمل المسلح هو احتلال شريط عريض بسيناء وضرب الهجمات المضادة والتوصل إلي وقف لإطلاق النار ومصر علي الجانب الآخر قد فرضت رؤيتها.. وكان هذا كله ما سجله التوجيه الرئيسي للقتال الذي كلف به الرئيس السادات القوات المسلحة المصرية في هذا اليوم الكبير، ثم بدء التفاوض ومن خلال التوازن مع إسرائيل وصولاً إلي تحقيق الانسحاب من سيناء.
من هنا يجب أن نعترف بأن نتائج هذا العمل المسلح كانت تتمثل إما في قبول الخصم الإسرائيلي التجاوب مع نتائج وخلاصات الحرب وقبول الخروج من سيناء أو أن يبقي السيف المصري الطويل مسلطاً علي إسرائيل من خلال التهديد المستمر للانطلاق شرقاً وعلي مراحل وحسب نمو قدرات القوات المسلحة واستطاعتها تحقيق الأهداف حسبما تسمح الإمكانيات.
كان هذا كله هو الشغل الشاغل للعاملين في حقل الدفاع والأمن القومي المصري، وكان الجميع يشغله كيف نتحرك لضرب إسرائيل والكيفية التي يمكن أن تدار بها المعركة القادمة سياسياً وعسكرياً.
وكان لي ورغم كوني دبلوماسياً صغيراً.. أفكار أطرحها علي مستشار الأمن القومي المصري الذي كان يشجعني وغيري من أعضاء هيئة مكتبه علي مناقشة أمور استراتيجية الحرب القادمة وكيف يمكن لنا أن نحكم إيقاعها بالشكل الذي يؤمن حركة دبلوماسية نشطة وفي إطار زمني واع بالمتطبات العسكرية التي ستفرض ثقلها علي الدبلوماسية.. وصولاً إلي التسوية.. وكان لي نقاشات ومذكرات مكتوبة مثلما قلت مع حافظ إسماعيل.
وكتبت يوماً في شهر يونيو 73 وقبل شهور من الحرب أن علينا أن نرتب لضربة مفاجئة نحقق بها أهدافاً محدودة علي الجانب الآخر من قناة السويس في سيناء ونتحرك بعدها إلي العمل الدبلوماسي من خلال التفاوض المباشر أو غير المباشر مع إسرائيل وصولاً لقبولها بالانسحاب.. وسلمت المذكرة إلي الدكتور عبدالهادي مخلوف الذي عرضها علي مستشار الأمن القومي.. الذي احتفظ للأسف بها (وحيث كان يسعدني دائماً أن أطلع علي تعقيباته الحكيمة ورؤيته للمواقف)، ثم جاءني د. مخلوف بعد أيام وأطلعني علي تعقيب مستفيض مكتوب بخط حافظ إسماعيل تضمن قوله:
أبوالغيط.. تثير مذكرتك عدداً من المسائل المتصلة بالعمل العسكري.. وفي ضوئها لا أظن، مع تقديري - أنني أتفق معك في الرأي..
1- حسب فهمي، فإنك تفترض:
أ- ضربة مصرية مفاجئة.
ب- ضربة سريعة جداً في تحقيق أهدافها (المحددة).
ج- قبول إسرائيل للنتيجة وموافقتها علي وقف النيران.
ولعل صورة عمليات 67 هي التي تسيطر علي تفكيرك.. كما يبدو أنك مقتنع بإمكان تكرارها. 2- هناك عدد من الاعتبارات، تجعلني أصل إلي رأي مختلف: أ- سيصعب علينا توجيه ضربة تحقق مفاجأة استراتيجية، ومن ثم يمكن للحرب أن تبدأ.. قبل أن نبدأها.
ب- المزاج المصري في التخطيط والتنفيذ لا يحبذ العمليات Blitzkreg.. كما أن طبيعة المواقع أمامنا ومستوي الدفاعات والقوات الأمامية الإسرائيلية، واستخدام الطيران.. سيجعل الاشتباك ما يسمي Slugging Mateg يعتمد علي الثقل أكثر من الحركة.
ج- إن تدخل أمريكا لوقف النيران (الأمر الذي نقبله حسب افتراضك) يفترض هزيمة إسرائيل في غرب سيناء وتدميرنا لأغلب جيشها.. العكس صحيح، أن أمريكا Wouldsil Backwait طالما بقيت لإسرائيل قدرة الهجوم المضاد.. وعلي هذا فإن العمليات ستكون ممتدة ويجب أن نعمل حسابنا علي هذا (وهذا يتطلب إعداداً خاصاً جداً).
د- وهذا سيثير التساؤل.. متي وكيف تتوقف العمليات؟ أري ألا نبدأ إلا إذا قدرنا إمكان تحقيق هدف محدد.. ضمن قدراتنا بحيث يحقق: تغيير الموقف بقدر يستثير العمل السياسي بعد ذلك = أو يمكن منه تأمين مصر مستقبلاً = ويحقق لها فقط تأمين الملاحة في السويس والخليج.. - وسوف يستنزف طاقة إسرائيل ومصر بقدر يدعوهما إلي De-Escalatc الصدام تدريجياً.. وإن لم يكن نهائياً. ه- هذه خواطر سريعة.. قد يحتاج الأمر إلي التفكير فيها وتأملها.. لتصور كيف تبدأ الحرب.. وكيف تنتهي.. وأرجو إعادة هذه الورقة.
تشويش من رئيسي
وعاد الدكتور عبدالهادي مخلوف لكي يستعيد هذا التعقيب المكتوب بهذا الخط الجميل الذي اتصف به حافظ إسماعيل.. وما كان لي أن أتذكره أو أستعيده إلا بعد حوالي 36 عاماً عندما جاءني د. مخلوف منذ شهور بمكتبي بوزارة الخارجية وأطلعني عليه قائلاً: لقد احتفظت بها لك علي مدي ستة وثلاثين عاماً.. ويالها من مفاجأة. إلا أن الأخطر في تقديري أن حافظ إسماعيل كان يرغب في التشويش علي وغيري من أعضاء مكتبه لحقيقة الأهداف والنوايا المصرية من العمل العسكري المصري المسلح والكيفية التي سيدار بها هذا العمل.. عسكرياً ودبلوماسياً.
وأري بعد كل هذه السنوات التي مرت أننا، وبالذات مستشار الأمن القومي حافظ إسماعيل، كان يتصور بحسه وخبرته السياسية والعسكرية، الشكل الذي يمكن أن تدار علي أساسه المعركة المسلحة والأخري الدبلوماسية وذلك رغم أنه قدر أيضاً صعوبة تحقيق المفاجأة الاستراتيجية والتكتيكية للصدام.. إلا أن الواقع كشف أن مصر نجحت في خططها بأسلوب فرض المفاجأة علي العدو بشكل كامل وتام.
ونعود إلي فترة العمل المسلح طوال شهر أكتوبر 73 فلقد أبقي الرئيس السادات، وفي إطار إدارة النزاع علي المستوي الدبلوماسي، علي اتصالاته وانفتاحه علي كل القوي وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي الذي اتسمت العلاقة معه طوال الأعوام الثلاثة السابقة علي الحرب بتوتر مكتوم أو علني.. وابقي الرئيس المصري علي تواصل معهم وبهدف تأمين الدعم العسكري والسياسي علي المستوي الدولي.. كما أبقي الرئيس أيضاً علي خطوط اتصال، وكذلك حافظ إسماعيل، مع الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته كيسنجر.
ووصلت الرسائل المتبادلة بين الجانبين علي مدي الفترة من 7 أكتوبر حتي 28 أكتوبر ومع بزوغ وقف إطلاق النار حوالي 15 رسالة بين السادات ونيكسون وما يقرب من عشرين رسالة بين حافظ إسماعيل وهنري كيسنجر.. ويجب أن أشير هنا إلي أن أحمد ماهر السيد، المستشار الدبلوماسي لحافظ إسماعيل.. ووزير الخارجية المصرية في الفترة من مايو 2001 حتي يوليو 2004 كان هو الذي يصيغ كل هذه الاتصالات وتحت التوجيه والإشراف المباشر لمستشار الأمن القومي المصري الذي سعي لنقل رؤية الرئيس السادات ومطالبه ومواقفه إلي الجانب الأمريكي.
كما استمر الرئيس السادات يدير المعركة الدبلوماسية عن طريق الحفاظ علي اتصال دائم مع البريطانيين باعتبار صلتهم الوثيقة مع واشنطن وكذلك مع إيران والشاه الذي قدر السادات أنه يستطيع أيضاً توظيفه للعمل علي الأمريكيين، ولم تقتصر بطبيعة الحال اتصالاتنا مع هذين الطرفين فقط، بل لم ينقطع سيل سفراء ومبعوثي ورسائل الدول التي سعي السادات لإبقاء الاتصالات معها خدمة لهدف وقف القتال عندما يحين الموعد وتحت الظروف المناسبة التي تخدم الهدف الاستراتيجي للحرب.
رسالة حافظ
وتبقي نقطتان لهما أهمية محورية.. أولهما: تتعلق بإحدي الرسائل التي أحيطت بالكثير من القيل والقال.. وأقصد بها رسالة حافظ إسماعيل إلي كيسنجر، بعد ما يقرب من 84 ساعة من بدء الاقتتال ورداً علي رسالة من كيسنجر أن مصر لا تسعي لتوسيع إطار المواجهة أو تعميقها، وحيث قيل من قبل البعض، ومن بينهم أناس علي درجة عالية من المعرفة والقدرة التحليلية والقيمة التاريخية، أن مصر بهذا الموقف كشفت عن نواياها وأعطت لإسرائيل وأمريكا فرصة رسم ردود فعلهما وعملياتهما تجاه العمل العسكري المصري سواء عسكرياً أو دبلوماسياً.
إلا أنني وللحقيقة والتاريخ لا أري هذا الرأي وأقول إن الجانب الأمريكي وأطرافاً عربية كثيرة كانت تتحدث عن احتمال قيام الأردن عندئذ بفتح الجبهة الأردنية وبشكل يزيد من تعقيد الأمور والحسابات مع إسرائيل وأخذت الضغوط تتزايد علي الأردن لتوسيع إطار الصدام والانضمام إلي مصر وسوريا، وكانت هناك رسائل أمريكية بالخشية من هذا الوضع المحتمل والتحذير منه.
واتصالاً بذلك وعلي الجانب الآخر من الحرب كانت عمليات سلاح الجو الإسرائيلي تسعي للتعرض للقواعد الجوية المصرية في الدلتا وبالقرب أيضاً من خط الجبهة.. وفي إحدي الغارات ضد مطار طنطا ومع ظهور فاعلية المقاتلات المصرية (الميج 21) فقد أسقطت طائرات إسرائيل إما بالخطأ نتيجة لتهديد مقاتلاتنا، أو بنية متعمدة، قنابلها علي إحدي القري القريبة من القاعدة الجوية المشار إليها في طنطا.. ومن يتابع صحف هذه الفترة يتبين حقيقة ما أحدث به هنا.
علي أي الأحوال.. كان الرئيس السادات يحاول الإبقاء علي خطوط اتصاله مع أمريكا وفي نفس الوقت قصر من الهجمات مع إسرائيل علي الجبهة المصرية والسورية وحتي يستطيع أن يحكم إيقاع تحركاته الدبلوماسية والسياسية مع توقف الصدام العسكري في توقيت ما قد تفرضه تطورات المعركة، من هنا ومع غضب الرئيس من الهجمات الإسرائيلية ضد المدنيين المصريين فإنه كلف حافظ إسماعيل بأن يخطر كيسنجر الذي كانت الاتصالات الكثيفة قد بدأت معه من خلال المخابرات العامة المصرية ومحطة المخابرات المركزية بالقاهرة برسالة بأن مصر لا ترغب في توسيع إطار المواجهة المسلحة.. وقصد بذلك عدم تشجيع الأردن علي فتح النيران.. وإن كانت الضغوط العربية والشعبية قد أدت في حقيقة الأمر في النهاية إلي دفع الأردن لأحد الألوية المدرعة للدخول من الأراضي الأردنية إلي جنوب الجولان للاشتباك مع إسرائيل داخل أراضي سوريا.
واستمرت رسالة حافظ إسماعيل تشير إلي عدم رغبة مصر في تعميق الاشتباكات أو الصدام بتحويله إلي ضرب في العمق وأخذاً في الاعتبار ما توافر لدي مصر عندئذ من صواريخ (سكود ب) التي كان بإمكانها أن تنال أراضي إسرائيل في النقب.. وأعتقد أن هذا التهديد المبطن قد أدي رسالته حيث لم تتكرر عملية الإغارة علي أي مدن أو قري في عمق مصر ولم تخسر مصر بالتالي أياً من المدنيين المصريين.
وأحسب أنه، وبكل أمانة التحليل والمسئولية، أن ما أقوله هو ما اقتنع حافظ إسماعيل بأنه ينقله إلي كيسنجر وبالشكل الذي صاغه به مستشاره السياسي أحمد ماهر السيد.
من هنا أعتقد أننا صدمنا جميعاً من هذه الكتابات التي اتهمت القيادة المصرية بأنها نقلت إلي إسرائيل وأمريكا نواياها في إطار العمل المسلح المصري وأنها نوايا ضيقة للغاية.. وأتصور أن الربط بين المسألتين في رد واحد من حافظ إسماعيل إلي كيسنجر ربما يكون هو المتسبب في الوصول إلي هذه النتيجة الخاطئة لهذه الرسالة (انضمام طرف عربي ثالث للمعركة + التعرض للمدنيين في العمليات الجوية.
وتأكيداً لصحة هذا التقييم أن الجيش قد سعي لتطوير الهجوم يوم 14 أكتوبر والانطلاق شرقاً نحو المضايق وحيث توقف الهجوم في المساء بعد تعرض القوات لخسائر كبيرة.. من هنا أيضاً كانت محاولة تطوير الهجوم في جنوب الجبهة بدفع اللواء الأول مشاه ميكانيكي في اتجاه صدر.. وتوقفه أيضاً في ضوء الهجمات الجوية الإسرائيلية الكثيفة.
ومرت أيام الصدام.. وهو ما آمل أن أكتب فيه المزيد اعتماداً علي يوميات المعركة مثلما سجلتها.. وتوقف القتال.. واستقرت الجبهة يوم 28 أكتوبر.. والتقي اللواء الجمسي مع الجنرال ياريف لتحقيق الاتفاق علي الإجراءات الكفيلة باستقرار وقف القتال.
وكنا لانزال نقيم في قصر عبدالمنعم بمصر الجديدة.. وهي إقامة اتسمت بالتقشف الشديد من قبل مستشار الأمن القومي المصري الذي أتذكر أنه صمم أن الأطعمة التي نحصل عليها تكون بمثابة جراية الجيش.. وقد توقفت طيلة سنوات تالية عن أكل اللوبيا ذات الرأس الأسود أو الكوسة بالطماطم والأرز التي اضطررت لأكلها علي مدي أكثر من شهر.
أما النقطة الثانية والأخيرة في هذا السياق الذي أكتب فيه، فهي نهايات الصدام المسلح وقدرة مصر علي تحقيق أهدافها السياسية منه، فلقد قلت سابقاً إن مصر حققت أهدافها بشكل كامل من الصدام المسلح.. ولو علي مدي زمني ممتد، إلا أن هذا الصدام والنجاح فيه وانتهاءه ومصر لاتزال تمتلك قوات مسلحة قادرة ونشطة، لا يجب أن يخفي حقيقة حجم المخاطرة التي خاضتها والجهد الذي بذل لتحقيق هذه الأهداف.
لقد كانت هناك معاناة.. ومررنا بصعوبات جمة وبذلنا تضحيات هائلة.. ولا يفهم ذلك إلا هؤلاء الذين شاركوا في هذا الجهد الهرقلي.. لقد تهدد الجيش الثاني.. وحوصر الجيش الثالث.. إلا أن التصميم المصري وإرادة القتال والتصدي وبقوة، لمخططات العدو.. افشلت في النهاية محاولته إلحاق الهزيمة بنا.
وعلي الجانب الآخر.. كانت المعركة الدبلوماسية التي أدير بها هذا الشق من الصدام مثالاً للقدرة علي الخيال والمبادرة وفهم الهدف ومتابعة تحقيقه دون خشية أو خوف.. وفي يوم 28 أكتوبر 73 حققت الحرب أهداف السياسة ووضعت مصر علي طريق التسوية النهائية التي تمخضت عن كامب دافيد ومعاهدة السلام.
لقد أكدت الحرب.. المقولة القائلة إنها مجرد امتداد للسياسة ولكن بأساليب ووسائل أخري.. وهي مسألة وعاها الرئيس السادات ومعاونه المباشر محمد حافظ إسماعيل بنضوج وعمق.. وعلي العكس من ذلك تصور البعض في مصر وربما أيضاً في سوريا أن الحرب يجب أن تستمر لأجل الحرب وهزيمة العدو بشكل كامل.. أي تحقيق الانتصار الكامل.. وهو فهم لست فقط لا أتفق معه.. بل هو يمثل فقدان الرؤية الصائبة لعلاقات القوي بين إسرائيل ومصر من ناحية وكذلك القواعد الحاكمة لعلاقات القوتين العظميين حينذاك من ناحية أخري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.