تعتبر العلاقة بين الدين والسياسة من الأمور الشائكة التي طال الجدل حولها، خصوصا في الدول العربية؛ حيث تتماهي الحدود والفواصل بين العنصرين، حتى وإن دعا البعض إلى الفصل بينهما، ويمكننا أن نرصد ذلك جليا في الأحداث التي ما زالت تموج بها الساحة حتى الآن، وهي تتمثل في الدعوات والتظاهرات المتكررة المطالبة بالإصلاح أو غيرها من مظاهرات مثلما حدث في أزمة الرسوم الدنماركية، مما يجعلنا نقرر أن هذا الفصل يكاد يكون مستحيلا، حتى لدى دعاته الذين ينافحون عنه؛ ولذلك فهو يظل – غالبا - فصلا نظريا شأنه شأن الكثير من النظريات والمُثُل التي لا تجد لها رصيدا في الواقع العملي. ويدفعنا الحديث حول هذا الأمر إلى أن نمايز بين فريقين أساسيين وهما التيار الإسلامي السياسي والتيار الحكومي الذي يدَّعي العلمانية أو فصل الدين عن الدولة تحديدا، وهو ما أطلقت عليه السياسة المتأسلمة. الإسلام السياسي: بالنسبة للفريق الأول فإنه ينطلق من اعتقادات فكرية لا تفصل بين الدين والسياسة على اعتبار أن الإسلام دين شامل صالح لكل زمان ومكان، وأن القرآن الكريم ليس مجرد كتاب سماوي للتعاليم الروحية والتعبد الفردي المنعزل، وإنما هو كتاب روح ومادة، أخلاق وتشريع، دعوة بالتي أحسن وحدود يجب تنفيذها، ولا يخلو من تشريعات وأصول حاكمة للعلاقات بين المسلمين وبعضهم أو بين المسلمين وغيرهم تتجلى كثيرا في أمور الاقتصاد والمعاملات والحرب والسلم والأخلاق. وعلى هذا – من وجهة نظرهم - فإن الفصل بين الدين والسياسة هو نوع من مخالفة طبائع الأشياء ولا يتناغم مع طبيعة الدين الإسلامي. وإذا اختلفت لغة التيار الإسلامي الآن عما كانت عليه من قبل فإن هذا الاختلاف لا يمثل في الواقع تغييرا في الأطروحات الفكرية التي يعتقدها هذا التيار بقدر ما هو لغة مشتركة للتفاهم مع باقي القوى التي تتلاقى معه في القضايا الملحة التي يدافع عنها مثل إطلاق الحريات والقضاء على الفساد. فإذا علت نبرة تيار الإسلام السياسي في الحديث عن الديموقراطية وتوارى الحديث عن الشورى، وإذا احتل الحديث عن الحرية أولوية أكبر من الحديث عن تطبيق حدود الشريعة، وإذا تنازل ممثلوه بشكل ما عن رفع المصاحف في المظاهرات ورفعوا بدلا منها علم دولتهم – مثال ذلك الإخوان في مصر عندما خرجوا في مظاهرات مطالبين بالإصلاح - أو غير ذلك من أمور جدت على طريقتهم في التعاطي مع الأحداث، فإن ذلك لا يعني تنازل هذا التيار عن منطلقاته الفكرية الأساسية ولا يعني كذلك أن هذه الأمور مخالفة لنهجهم الذي يعتقدون، فالإسلام جاء بالحرية للعالمين، والفتوحات الإسلامية كانت للدعوة وتحرير الشعوب من الظلم والاضطهاد ومحو أساطير الحكام الآلهة. وكذلك فإن رفع علم البلد بدلا من المصحف لا ضير فيه؛ لأن الإسلام ليس ضد القومية، حيث ينظر إليها باعتبارها جزءا من كل، أي أن القومية جزء من عقيدة المسلم والمسلم في عرفهم يجب أن يحب كشمير والشيشان ويأسى لمسلمي الفلبين وتركستان الشرقية تماما مثلما يأسى لفلسطين والعراق. على كلٍّ، فإن التغيير الذي طرأ على التيار الإسلامي السياسي في أكثره تغيير شكلي لا يؤثر كثيرا على المنطلقات الفكرية الأساسية التي يتبناها هذا التيار، ولا يؤثر كثيرا على مصداقيته فيما يدعو إليه وفيما يطرحه من دعاوى. السياسة المتأسلمة: ربما كانت إشكالية السياسة المتأسلمة أكبر من إشكالية الإسلام السياسي، حيث إن دعاة الإسلام السياسي أكثر توافقا مع ذواتهم وإدراكا لما يدعون إليه، وربما كانوا كذلك أكثر تنظيما وترتيبا على مستوى الأفكار والتحركات. أما أصحاب السياسة المتأسلمة – وأقصد بهم هنا الحكومات وهيئاتها - فإنهم في الأساس أهل حكم، جاؤوا إليه بطرق مختلف إما سلمية أو انقلابية أو صُدْفِيَّة – أي عن طريق الصدفة - وكثيرون منهم منبوذون من شعوبهم لأنهم مفروضون عليها، فنجدهم يلجأون إلى الدين لتسويغ بعض المواقف أو الترويج لبعض الأفكار أو لكسب التعاطف الشعبي والتأييد المجتمعي، ومن ثم تثبيت الشرعية المهتزة. إنهم إذن يلجأون إلى الدين ويحتمون بحماه لأنه ثابت في وجدان الشعوب منذ بدء الخليقة، فيعتقدون على أثر ذلك أن التحصن به – ولو كان شكليا – سيضمن لهم الخلود في الحكم. إن هذه الحالة لا تختلف كثيرا في منطقها عن جوهر الحكم الثيوقراطي الذي انتشر في أوروبا في العصور الوسطى، حيث كان الزواج المقدس بين الكنيسة والسلطة. وفي العالم الثالث – وأخص منه العالم العربي – يُنْشِئُ الحكام كنائسهم وباباواتهم حسب احتياجاتهم الخاصة، فكلما ضعف شأن الحاكم وتراخت سطوته الفعلية على الأمور نجده يتمسح بالدين أكثر. وأزمة الرسوم الدنماركية التي أساءت للرسول الكريم محمد – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – توضح هذا الاستغلال جليا؛ حيث إن بعض الحكومات – وهي قليلة – تحركت بدافع الغيرة الحقيقية، والبعض الآخر تحرك ضد الدنمارك وأشعل الموقف لاعتبارات خاصة به تتمثل في عدة أمور منها: تخفيف الضغوط المطالبة بالإصلاح وتحويل الأنظار تجاه قضايا أخرى وإشغال الرأي العام بها، وكذلك الظهور أمام شعبه بمظهر المحافظ على العقائد والأخلاق والمثل الدينية. والمدقق في الأمر يجد أن تحركات هؤلاء الحكام على أرض الواقع تسيء إلى الرسول أكثر من إساءة تلك الرسوم التافهة، فالرسول الكريم لن تضيره تلك الرسوم بقدر ما يضيره قتل نفس بغير حق في سجن أو معتقل، وصراخ طفل يبكي من الجوع، وحسرة زوج فقدت عائلها في زنازين وحشية. ومن هؤلاء الحكام الذين هبوا لنصرة النبي من ينكر السنة النبوية أصلا، ومنهم من يحارب دعاة الإسلام وسنة النبي بضراوة. المشهد العام إذن ينبئ أن السياسة المتأسلمة تسيء إلى الدين والسياسة أكثر مما يدعي البعض من إساءة أصحاب الاتجاه الإسلامي السياسي للمقدس أو المطلق. ولأن هؤلاء الحكام يمتلكون الكثير من الهيئات الدينية ويسيطرون كذلك على الكثيرين من رجال الدين والوعاظ سواء بالترغيب أو بالترهيب فإنهم يحققون ما يطمحون إليه وذلك عن طريق فتاوى هؤلاء العلماء التي كثيرا ما تأتي مخالفة لرأي أكثر العلماء المستقلين المشهود لهم بالحياد والمكانة المتميزة في تخصصاتهم، وربما كذلك تخالف علماء الهيئات الدينية الذين لم يتبعوا هوى حكوماتهم. وقد تأتي هذه الفتاوى كذلك مخالفة لآمال الجماهير وطموحاتهم في التحرر والاستقلال والتطور نحو الأفضل. وفي جانب منها قد تأتي بعيدة كل البعد عن مصالح الوطن لتحقيق مصالح جهات خارجية. ربما اعتقد البعض أنني أبالغ، لكن هذه هي الحقيقة، وما على القارئ إلا أن يرجع إلى المطبوعات والصحف والمجلات ومواقع شبكة المعلومات الدولية ليقرأ الكثير من هذه الفتاوى. الفتاوى السياسية ومجاملة الدول الصديقة: في ظل الحروب العالمية الاقتصادية والثقافية وربما العقدية الحالية تساهم الفتاوى السياسة في خدمة بعض القوانين والسياسات لدول أخرى تربطنا بها علاقات ما؛ وتصبح الفتوى خادمة للسياسة الخارجية وداعمة لها حتى لو أضرت بمصلحة فئة معينة من فئات المسلمين، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما أفتى به مسئول ديني كبير حول العمليات الاستشهادية الفلسطينية عندما كانت في أوجها؛ حيث حرمها وجرمها، واعتبرها مخالفة للإسلام الحنيف، الذي ينص كتابه العزيز على: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وكانت هذه الفتوى متماشية مع سياسة الدولة التي ينتمي إليها على نحو من الأنحاء، حيث كانت علاقتها بأمريكا وإسرائيل في غاية الود والتوافق، وعندما تغير الأمر وساءت هذه العلاقة بعض الشيء كان المسئول الديني الكبير نفسه هو من أفتى بشرعية مثل هذه العمليات في مقاومة المحتل. فالمراقب للوضع يقف متحيرا إزاء هذا الاضطراب! وقد أدى هذا الإرباك في المواقف والفتاوى الرسمية التي تدور في فلك السياسة إلى فقدان الثقة في هذه المؤسسات مما رجح كفة العلماء والفقهاء المستقلين الذين التف حولهم جمهور المسلمين. ومن الفتاوى السياسية كذلك الفتوى الخاصة بالحجاب في فرنسا، حيث كان موقف المؤسسة الدينية الرسمية في مصر موقفا سياسيا أكثر منه دينيا، وتمثل في نصح الفتيات المسلمات الفرنسيات أن يتبعن قوانين الدولة التي يعيشون فيها. والقوانين بالطبع تمنعهن من الحجاب في مدارسهن. وغير ذلك من فتاوى سياسية مثيرة للجدل تخدم السياسة الخارجية وعلاقة الدولة التي تصدر منها هذه الفتاوى بدول أخرى تربطها بها مصالح بصرف النظر عن الحكم الشرعي الراجح أو مصلحة المسلمين المعنيين بالأمر. الفتاوى السياسية والأوضاع الداخلية: لم تتوقف الفتاوى السياسية التي تلجأ لها السياسة المتأسلمة عند حدود المجاملات أو تمرير بعض القضايا هنا أو هناك، إنما تعداها إلى تدخل سافر في أمور هي من أخص خصائص السياسة لدرجة أصابت الناس بالضيق والتذمر، وأخص من هذه الفتاوى ما صدر مؤخرا من بعض المؤسسات الدينية الرسمية المصرية حول تحريم التظاهر بدعوى "طاعة ولي الأمر" وتسويغ ما يفعله أولياء الأمر مع المتظاهرين من اعتداء على اعتبار أنهم خارجون على طاعة ولي الأمر. ولا يقتصر الأمر على مصر فقط، وإنما يمتد إلى دول عربية أخرى كثيرة حيث يقف فيها الوعاظ والفقهاء المستأنسون على قدم وساق ليؤازروا الحاكم في سيطرته وهيمنته بدعاوى فقهية بالية لم يعد العصر الحديث يتحملها؛ لأن الضرر الواقع بها أعظم من المخاوف التي يدرأونها بها. وهذه القضية في غاية الخطورة، حيث إن الحقوق المدنية للشعوب من حرية تعبير وحرية اختيار، ومساءلة ومراقبة، تصبح في ظل السياسة المتأسلمة هباءا منثورا، وتجد الدعم الشرعي من الفتاوى السياسية مما يجعل هذه الشعوب تتخلف كثيرا. ومن الدعاية التي تمسحت بالدين لخدمة السياسة ما أطلقه علماء دين من أقوال يحثون فيها الناس على الذهاب إلى صناديق الاستفتاء أو الانتخاب وقد تغلفت هذه الدعاية بالتهديد والوعيد والتخويف من عاقبة كتم الشهادة لأن من يكتمها فإنه آثم قلبه، ولم يغب عن المشهد آيات وأحاديث وآثار دينية تم توظيفها لهذا الغرض. إن إقحام السياسة المتأسلمة للدين بهذه الطريقة تجعلنا نراجع الدعاوى الخاصة بفصل الدين عن الدولة وتجريم الأحزاب أو الجماعات التي تقوم على أساس ديني، وهذه المراجعة – في ضوء ما هو حاصل – تجعلنا نقرر أنها ليس لها أساس من الصحة وأن من يروج لها لا يلتزم بها ، وتؤدي الممارسات الخاطئة والفتاوى الداعمة لهذا الأمر إلى الإضرار بمصالح الشعوب لحساب الحكومات مما يزيد الفجوة بين عناصر الأمة من علماء وحكام وشعوب. ----- * شاعر مصري