هل يمكن أن تكون هناك ديمقراطية في بلد دون حسم لقضية علاقة الدين بالدولة؟ المسألة هنا ليست أن يكون الإنسان متدينا أم لا فالأصل هو أن يكون الإنسان متدينا وفي بلد مثل مصر فإن الدين قديم قدم الوجود, وهو العمود الفقري للثقافة العامة. ولكن الدين في الدولة أمر آخر, لأنه يحدد العلاقة بين العام والخاص في حياة الإنسان, وبين السلطة الدنيوية والسلطة الدينية, ومن ثم بين الفتوي والتشريع في إقرار القوانين. العجيب في الأمر أن كثيرا من المتحدثين عن الديمقراطية, والحالمين بها, لديهم طريقة للبعد عن الموضوع كله وتجنبه وهي تجاهل تلك اللحظات التي يظهر فيها جلاء التناقض بين هذه وتلك من المبادئ الأساسية لنظام الحكم. ومن وقت لآخر تظهر أحداث تبرز تلك القضية إلي السطح, فقد أثار الحوار الذي أجرته الدكتورة سعاد صالح أستاذة الفقه المقارن وعضوة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مع المذيع جابر القرموطي في برنامج مانشيت علي قناة أون تي في يوم الأحد20 يونيو الماضي, حالة من الجدل الشديد علي الساحة المصرية أعادت قضية العلاقة بين الدين والدولة إلي واجهة الأحداث من جديد, خصوصا أن هذا الحوار جاء بعد يوم واحد فقط من انضمام د. سعاد إلي حزب الوفد ذي التوجه الليبرالي, مبررة قرارها بأنه كان نتيجة للصورة الحضارية التي اتسمت بها انتخابات رئاسة الحزب الذي يمكن أن يكون منبرا, من خلال لجنة الشئون الدينية والمرأة, للتحرك بين الناس والتفاعل مع المواطن المصري الذي وصفته بالمطحون, في ظل عدم وجود أحزاب أخري قادرة علي تحقيق ذلك. كما أنه تلي تصريحاتها التي أدلت بها في الندوة التي نظمتها الرابطة العالمية لخريجي الأزهر في15 من الشهر نفسه, وقالت فيها إن من حق المرأة أن تكون رئيسة للدولة طالما أن عصر الخلافة قد انتهي. فقد رفضت د. سعاد مسألة وصول المسيحي إلي رئاسة الدولة, واعتبرت أنه لا يجوز شرعا أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيا, واستندت في ردها علي سؤال المذيع حول رأيها في المطالبة بحق المسيحيين في الوصول إلي الحكم إلي الآية القرآنية ولن يجعل الله للكافرين علي المؤمنين سبيلا, مضيفة: لابد أن تكون الولاية من المسلم علي الكافر وليس العكس, لذلك أباح الله زواج المسلم من غير المسلمة وليس العكس, لأن الولاية في الزواج تكون للرجل, كما أن القوامة تكون للدين الأعلي وليس الأدني. وبالطبع كان من الطبيعي أن يكون السؤال التالي علي ذلك, هو أن هذه الآراء تتعارض مع المبادئ التي يتبناها حزب الوفد العلماني وعلي رأسها مبدأ المواطنة والمساواة بين المسلم والمسيحي والرجل والمرأة, لكن د. سعاد ردت علي ذلك بأنه رغم أن الحزب يتبني نهجا علمانيا إلا أنه ليس حزبا كافرا, كما أنه لا ينكر وجود الله أو الشهادتين فضلا عن أنه ينشر مقالات دينية رصينة في صحيفته. وشبهت آراءها بالموقف الذي اتخذه البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية في رفضه تنفيذ حكم المحكمة الإدارية العليا بإلزام الكنيسة بإصدار تصاريح الزواج الثاني في حالة الطلاق حيث أرجع ذلك إلي تمسكه بالإنجيل, وهو ما شددت عليه د. سعاد التي قالت إنها أيضا تتمسك بتعاليم دينها التي لا تبيح ولاية الكافرين علي المسلمين استنادا إلي الآية القرآنية التي ذكرتها .وقد كانت هذه الآراء سببا في دفع القضية مرة أخري إلي السطح, وجذبت ردود فعل متباينة تجاهها سواء خلال البرنامج نفسه أو في وسائل الإعلام المختلفة بعد ذلك. وانقسمت هذه الردود إلي اتجاهات رئيسية ثلاثة: الأول, رفض هذه الآراء من الأساس واستند في ذلك إلي مبدأ المواطنة بموجب المادة الأولي من الدستور التي تقول إن جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل علي تحقيق وحدتها الشاملة. أي أن الكلمة الفصل في هذه القضية الشائكة, وفقا لهذا الاتجاه, تعود إلي الدستور الذي لم يحرم المسلم أو المسيحي والرجل أو المرأة من تولي منصب رئيس الجمهورية. والثاني, رأي أن العنوان الرئيسي لهذا الجدل المستمر الذي يظهر بين الحين والآخر هو المادة الثانية من الدستور التي تنص علي أن الإسلام دين الدولة, واللغة العربية لغتها الرسمية, ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع, ويتمثل الحل في رؤيته في إلغاء هذه المادة التي يمكن أن تنتج تداعيات إيجابية علي المجال العام في الدولة علي الأقل فيما يتعلق بعدم ظهور أزمات جديدة حول قضية العلاقة بين الدين والدولة, معتبرا أن انفصال الإمامة الدينية عن المدنية يعني في المقام الأول تولية هذا المنصب للأصلح دون النظر إلي ديانته أو جنسه. أما الاتجاه الثالث, فاقتصر علي رفض فكرة تكفير المسيحيين مطالبا صاحبة هذه الآراء بتفسير الآية التي استندت إليها لإثبات وجهة نظرها بخصوص رفض تولية المسيحي رئاسة الجمهورية, معتبرا أنه لا يجوز تكفير أي إنسان يؤمن بالله, وأن من حق أي مواطن مصري تولي أي منصب خصوصا أن المصريين جميعا متساوون وفقا للدستور. لكن اللافت للانتباه في هذا السياق, هو حدوث حالة من التباين داخل حزب الوفد حول التعاطي مع الآراء التي طرحتها د. سعاد العضوة الجديدة في الحزب, حيث برز في هذا السياق فريقان: الأول, انتقد آراءها مطالبا إياها بالفصل بين توجهاتها الدينية وكونها عضوة في حزب الوفد, وبالعودة إلي المبادئ الأساسية للحزب التي تؤكد مبدأ المواطنة والمساواة بين المسلم والمسيحي والرجل والمرأة خصوصا في مسألة الوصول إلي الرئاسة, وهي أحد المبادئ الأساسية التي وضعها الحزب علي قمة أولوياته منذ نشأته وحتي الآن. والثاني, حاول التقليل من تداعيات هذه الآراء مؤكدا أن مضمون الحوار ليس سياسيا وإنما ديني يرتبط بتخصص صاحبته, ومن ثم فإنه لا يتعارض مع المبادئ أو الخط العام الذي يتبناه حزب الوفد الذي تسمو آراؤه فوق أي رأي آخر, والذي يضيف إليه التنوع في الآراء زخما وبريقا خاصا. لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد, بل إن ثمة ردود فعل بدأت تظهر تباعا لم تركز علي مضمون الآراء التي طرحتها د.سعاد, بل علي تداعياتها علي المناخ السياسي في مصر التي بدأت موسما انتخابيا بإجراء انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشوري في أول يونيو الماضي, حيث انتقد بعضها د. سعاد لعدم حصافتها في تجنب الوقوع في شرك الحديث عن قضايا حساسة بهذا الشكل في الوقت الذي ينادي فيه الحزب الذي انضمت إليه بمبادئ المواطنة والمساواة, مؤكدة أن المسألة كانت في الأساس محاولة لإحداث فرقعة إعلامية. فيما انتقد البعض الآخر الأسلوب الذي تنتهجه بعض وسائل الإعلام لتسليط الضوء علي مثل هذه القضايا الحساسة, حيث تغذي, دون أن تدري, رؤي وأفكارا ظلامية تتبناها بعض الجماعات المتطرفة, في الوقت الذي تدعي فيه أنها ذات نهج ليبرالي. فيما اتجه البعض الثالث إلي رفع دعوي ضد صاحبة هذه الآراء بتهمة إثارة فتنة طائفية تهدد الوحدة الوطنية للدولة. كما دخل العديد من ممثلي المؤسسات الدينية والقوي السياسية علي خط الجدل الذي أثارته هذه الآراء, حيث أشار بعض العلماء والسياسيين, من بينهم نائب في مجلس الشعب عن جماعة الإخوان المسلمين, إلي إمكانية تولي المسيحي رئاسة الجمهورية طالما أن ذلك يدخل ضمن الأمور الدنيوية, استنادا إلي الآية القرآنية ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين. وقد ردت د. سعاد علي منتقديها بقولها إنها لا تستطيع الحكم بتكفير أو إيمان أي شخص, مضيفة أن أي حزب يناهض مبادئها الدينية لن تنضم إليه, مؤكدة في النهاية أن هذه القضية منتهية بالنسبة لها, وهي متمسكة بكل الآراء التي طرحتها في هذا السياق. القضية هكذا موضع جدل من ناحية, وموضع التباس في النظام السياسي كله, والأهم من ناحيتنا أنه يضع القوي السياسية الديمقراطية في اختبار يحتاج الكثير من الاجتهاد ليس مع نص المواطنة والمساواة لأنه بدونه لا تقوم الديمقراطية, ولكن مع النص الديني والتأكيد علي ما فيه من سماحة من جانب, وما فيه من خصوصية من جانب آخر. د. سعاد التي قالت إنها أيضا تتمسك بتعاليم دينها التي لا تبيح ولاية الكافرين علي المسلمين استنادا إلي الآية القرآنية التي ذكرتها. مضمون الحوار ليس سياسيا وإنما ديني يرتبط بتخصص صاحبته, ومن ثم فإنه لا يتعارض مع المبادئ أو الخط العام الذي يتبناه حزب الوفد. [email protected]