مرت سنة 2013 بحلوها ومرها، بخيرها وشرها، بتجاربها ودروسها، بمنحها ومحنها، وإن كانت الثانية فيها أكثر من الأولى. كانت سنة 2013 سنة شديدة على المصريين، حدثت لهم فيها عملية "بسترة" شديدة التعقيد، تنقلوا فيها بين التناقضات، ومن حرية إلى استبداد. ومنذ ما قبل 25 يناير والمصريون يعيشون حالة ثورية عجيبة، ينتقلون فيها من النقيض إلى النقيض، وما بين التناقضات اكتوى الشعب المصري بنيران التجارب والمحن، وللأسف لم تكن كلها نيران صديقة، بل نيران عدوة، اجتمع فيها أعداء الداخل مع أعداء الخارج على وأد تجربته في الحرية، والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية. كان مما سمعته في مقتبل الشباب من بعض كبار الدعاة والمفكرين أنه منذ أن سقطت الدولة العثمانية وكل مخابرات الدنيا انتقلت من الأستانة إلى القاهرة، دلالة على عظم أهمية القاهرة، وعلى دورها المحوري في صوغ حاضر المنطقة ومستقبلها. ولما قُدِّر لنا الخروج منها والعيش خارجها، ورأينا كيف يتلهف العرب والمسلمون على أخبار مصر ويتابعونها كأنها جزء من أخبار ديارهم كنت أتعجب في بداية الأمر، وأراه نوعا من التدخل فيما لا شأن لهم به، إنما بعد مرور وقت ليس بالكثير أدركت أن شأن مصر هو شأن داخلي لكل عربي ولكل مسلم. عاشت مصر على وقع الثورة حتى كانت 25 يناير وخروج الناس على اختلاف توجهاتهم وسقط مبارك، لكن لم يسقط نظام مبارك، الذي ظل وفيًا له. كانت ثورة يناير ثورة حقيقية، حتى وإن كانت بلا قيادة، ولا تنظيم قائد، ولا حركة تحكمها، ولا مفكرون يعبرون عن رؤيتها ومطالبها ككل الثورات. كانت ثورة حقيقية وإن ظل كل ما سبق من أهم سلبياتها. كانت ثورة يناير ثورة حقيقية لكنها لم تكن ثورة ذكية، بدليل أن الدولة العميقة قد كمنت لها في أضابير مؤسسات الدولة وملفاتها المعقدة، وتركتها (أي ثورة يناير) تتخبط في أخطائها، وتتعثر في خطواتها، وتخرج من أزمة لتدخل في أختها أكبر منها، حتى انقضت عليها الثورة المضادة في 3 يوليو. كانت الثورة المضادة أذكى بكثير من ثورة يناير، تللك الثورة النقية البيضاء. وكانت الدولة العميقة أعمق من كل التصورات. وكان حجم الفساد يفوق الخيال. وكانت شبكات المصالح والفساد من التشكبيك والتعقيد بما يفوق إمكانات أي تيار سياسي مصري بمفرده، ولو كان بحجم الإخوان المسلمين، لكنه لم يدرك أغلبهم هذه الحقيقة إلا بعد فوات الأوان، ولا بكاء على اللبن المسكوب، ولو، فتح عمل الشيطان. مع بشائر ثورة يناير كنت أدرك حجم التحديات الداخلية والخارجية، وخاصة الخارجية التي تقف في سبيلها، حتى فاجأني أحد الرموز الفكرية والسياسية في الخليج بقوله: لن تسمح أغلب النظم الخليجية بنجاح ثورتكم، إن حكم الشعوب خطر على الملكيات والنظم الوراثية، لأن نجاحكم سيؤثر بشكل مباشر على مستقبل تلك النظم واستقرارها. لم يكن الكلام صادما لي كمعلومات، بقدر ما كان صادمًا لي كحقيقية إقليمية لا يكمن الفرار منها، وربما كانت أحد المعادلات الحاكمة لأي تغيير مستقبلي في مصر. مرت سنة 2013 بحلوها ومرها، وخيرها وشرها، وإن كان الثاني أكثر من الأول. فما كان أحد يتخيل أننا ثرنا على فرعون مستتر أو مقنع، ليهتف قطاع من الشعب بحياة فرعون سافر، بل ويرجوه أن يحكمه، وأن يكمل جميله عليه، أعوذ بالله. وأحيانا تكون كآبة أحداث الحياة أشد بؤسا من كوابيسها. كنا نتصور أننا ودعنا عهود الاستعباد والاستبداد سواء أكانوا من الخارج أو من بني جلدتنا، فإذا العام ينتصف بعملية اغتصاب سافر للسلطة من رئيس منتخب. أخطأ؟ نعم. أساء؟ ربما. فشل؟ إلى حد كبير. لكن ألم تكن هناك وسيلة لإجباره على انتخابات رئاسية مبكرة، أو حتى إجباره على إجراء استفتاء على استمراره: ألم يكن هناك حل: غير القوة العسكرية؟ وغير انقسام المجتمع والبلد؟ وغير الإغراق في بحر الدم؟ وغير الدخول في نفق العنف المظلم؟ وغير الانحراف عن أبسط إجراءات الديمقراطية وقوانينها؟ وغير الاطاحة بملايين الأصوات التي جاءت به رئيسا؟ وغير الإفراط في استخدام الحلول الأمنية العقيمة. مصر ثارت في يناير 2011 على واقع، لا لتقع فيما هو أسوأ منه في 3 يوليو 2013. ولم يخرج الشباب على حاكم مستبد، لتأتي لنا الأيام بمن هو أشد منه استبدادًا. صحيح الواقع مؤلم، والشهور الستة الماضية كانت محرقة، ليس لمن قضى نحبه في رابعة والنهضة وميدان رمسيس ومسجد الفتح، إنما كانت محرقة لتجربة كانت على وشك أن تثمر لنا دولة عدل: لا يُظلم فيها أحد. ولا يضطر للهجرة منها أحد. دول عدل: يجد فيها كل محتاج ما يكفيه. ويجد فيها كل مريض ما يشفيه: دواءً وعلاجا. ويجد فيها كل طفل مدرسة. ويجد فيها كل طالب جامعة لها ترتيب على مستوى العالم. ويجد فيها كل محسن لعمله جزاءً وفاقا. ويجد فيها كل مواطن محاكمة عادلة أمام قاضيه الطبيعي. ويجد فيها كل مجرم ومسجل خطر سجنا يأويه، لا أن يسميهم إعلام العار: المواطنون الشرفاء والأهالي. دولة عدل وحرية: لا استقطاب فيها ولا تهميش. ولا إقصاء فيها ولا محاكم عسكرية لغير العسكريين. ولا تجسس على اتصالات المواطنين الخاصة وابتزازهم بها. ولا تنقيب في ضمائر الناس وقلوبهم. لا مكارثية، ولا محاكم تفتيش. دولة عدل وإنجاز: تخرج بنا من عداد الدول الفقيرة والتي تعيش على المعونات والمنح. وتخرج بنا من عداد الدول التي يُشتَرَى رؤساؤها، ويبيعون أوطانهم بثمن بخس. دولة عدل وعدالة اجتماعية: فلا يتحكم بنا الرأسماليون الجدد المتوحشون. ولا يتاجر بنا أحد: لا تجار دين، ولا تجار وطنية. كانت ثورة يناير حلمًا جميلا. لكننا ما زلنا نحلمه، حتى لو كان الواقع كئيبا. وربما نحقق في 2014 ما كنا نرجوه في 2011. ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبًا. أخر كلام: احلموا .. فالحلم أصبح هو الشيء الوحيد الباقي الذي لا يقدر نظام: على تأميمه. ولا على مصادرته. ولا على المحاكمة عليه.