عندما أصدر الرئيس محمد مرسي إعلانه الدستوري الشهير إنتقده معظم المهتمين بالسياسة من ساسة وكتاب وغيرهم، وتراوحت الإنتقادات في أهونها بين إنتقاد التوقيت وإنتقاد الشكل وصولًا إلى تعبيرات في منتهي القسوة تهيل عليه التراب شكلًا وموضوعًا، وتستدعي من القاموس السياسي أقصى وأقسى كلماته، من (التأليه) إلى (الفرعنة) إلى (الحاكم بأمره) إلى (الإستبداد)، بل وذهبت من خلال بعض الأقلام التي نشرت بحرية في عهده وأذاعت هذا عبر الفضائيات في عهده، أن إستدعت من قاموس الشتائم الكثير من البذاءات التي يعاقب عليها القانون المدني بحق المواطن العادي، ناهيك عن رئيس الجمهورية، ووصل التشنج للحشد في الشارع وحصار القصر الجمهوري وحرق ثلاثين مقرًا لجماعة الإخوان خلال الثلاث أيام التالية لصدور الإعلان الدستوري !.
ومن بين كل تلك الدعايات السلبية بالحق وبالباطل ضد إعلان الرئيس كانت هناك جملة يركزون عليها، كأنهم يريدون للشعب أن يحفظها عن ظهر قلب دون أن يتدبرها، ألا وهي (أن الإعلان الدستوري قد قسم مصر) !، وفي رواية متأخرة لهذه المقولة (أن الإعلان الدستوري قد قسم مصر إلى شعبين) !!.
كثيرًا ما أستوقفتني هذه الجملة تحديدًا دون باقي الدعايا السلبية التي أحاطت بالإعلان الدستوري، وذلك لثلاثة أسباب، أولًا: الإصرار المفتعل على ترديدها دون تفسير، والإصرار على تكرارها بغية أن يحفظها الناس دون سواها، وثانيًا: أن الشعب المصري كان بالفعل - ولفترة طويلة قبل صدور الإعلان - منقسم سياسيًا حتى النخاع !!، ألم يظهر هذا الإنقسام في إستفتاء 19 مارس ؟!، ألم يظهر في الإنتخابات النيابية ؟!، ألم يظهر في ذكرى الأول للثورة في يناير 2012 ؟!، ألم يظهر في نتائج الإنتخابات الرئاسية وما صاحبها من إستقطاب حاد ؟!، ألم يظهر في محاولات إسقاط الرئيس منذ الشهر الأول، والدعوة لمظاهرات 25 أغسطس لإسقاطه ؟!، ألم يظهر في ذكرى محمد محمود الأولى ولم يكن الشارع قد إنطفأ من نيرانها ؟!، أفهم أن يقال أن هذا الأعلان زاد الإنقسام، أما أن يقال أنه هو الذي قسم الشعب، كأن الشعب كان متحدًا ملتئمًا قبله، فهذا هو عين التضليل، وثالثًا: أن الإعلان الدستوري لم يحتو في أي بند من بنوده أي إستهداف لفئة أو طائفة أو فصيل في المجتمع، وبالتالي فالإنقسام حوله إنقسام سياسي بين مؤيد ومعارض ومتحفظ، وهو الإنقسام المعتاد في أي مجتمع بخصوص القرارات السياسية الهامة، خاصة في مناخ الإستقطاب والإحتقان السابق له، وهذا الإنقسام والإختلاف لو عولج بوعي من الساسة المعارضين لكان يمكن التعامل معه، لكنهم سارعوا إلى حشد الناس في الشارع، ولم يدينوا بحسم أعمال العنف التي رافقت ما حشدوا من حرق مقرات وحصار للقصر الجمهوري وغيرها.
مما سبق يتضح أن القول الذي يكررونه صباح مساء أن (الإعلان الدستوري في نوفمبر 2012 قد قسم الشعب المصري) هو (وهم) إعلامي يراد له بالتكرار أن يتجسد حقيقة، تمامًا مثل حبال السحرة التي يخيل للناس من السحر أنها تسعى، وأن يتحول لمسلمة تاريخية لايجوز التشكيك فيها.
الغريب أن الذين قاموا وقعدوا وأرغوا وأزبدوا حين أصدر الرئيس مرسي اعلانه الدستوري، واعتبروه أنه تجاوز صلاحياته أو توسع في إستخدامها، لم يفعلوا شيئًا من ذلك حين طلب الجنرال تفويضًا مباشرًا من الشعب بمحاربة الإرهاب !!، وكثير منهم أيده !!!، وهو التفويض الذي ينتمي سياسيًا للقرون الوسطى، ويعود إلى عهد ما قبل الدساتير والقوانين !!، فعلى الأقل كان الرئيس مرسي يتصرف في إطار صلاحياته، ولنا أن نعارضه سياسيًا، أما تصرف الجنرال فأين نصنفه ؟!، وبأي حق يطلب وزير في الحكومة تفويضًا مباشرًا من الشعب ؟!!، وكيف يطلب تفويضًا غير محدد الجوانب والإلتزامات ؟!!، وما هي ضوابط التأكد من هذا التفويض ؟!، وكيف يفتئت على رئاسة البلاد ورئاسة الحكومة في طلب عام لا يختص بوزارته ؟!، وفي إطار مكافحة الإرهاب وهو أمر تتداخل فيها وزارات أخرى لا ولاية له عليها، مثل الداخلية والمالية ؟!.
لو كان الذين إعترضوا على الإعلان الدستوري من الناحية الإجرائية صادقين مع أنفسهم ومع الناس لكان أولى بهم أن يعترضوا على هذا التفويض الهلامي ألف مرة، ولو كان الذين إعترضوا على الإعلان الدستوري لأنه يحصن الرئيس صادقين مع أنفسهم ومع الناس لكان أولى بهم أن يعترضوا ألف مرة على تحصين وزير الدفاع لنفسه بدعوة الشعب إلى التوقيع على بياض لتفويض دون ضوابط، ولو كان الذين إعترضوا على الإعلان الدستوري مظنة الإستبداد وخوفًا من إستخدامه في قرارات جائرة صادقين مع أنفسهم ومع الناس لكان أولى بهم أن يعترضوا ألف مرة على الإجراءات الإجرامية والمذابح الجماعية التي حدثت بالفعل نتيجة لهذا التفويض، فالذين أعترضوا على (الخطر المظنون) أولى بهم أن يعترضوا على (الخطب الموجود) !!، وإن الذي إرتكبه الجنرال أبعد ألف مرة مما كان يدور في زهن أشد المتخوفين مما يمكن أن يفعله الرئيس المنتخب بالتحصين المؤقت الذي حصل عليه في الإعلان الدستوري !!.
إن الذي فرق الشعب المصري بالفعل هو ذلك التفويض اللعين، وما تلاه من مذابح وإستهتار بأرواح المصريين هنا وهناك، واستهداف تيار سياسي بعينه بالقتل والجرح والسحل والسجن والإقصاء في جميع المؤسسات والمرافق، وتعريضه لحملات إعلامية فاشية بشعة بهدف تصفيته والقضاء عليه، في ممارسات فرقت بين المصريين بالدم، وليس بالوهم.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.