يفترض من الناحية النظرية أن المقاومة والمحكمة فى خندق واحد، فالمقاومة تنشد صد العدوان والدفاع عن الحق الذى يتهدده هذا العدوان، ومحكمة الحريرى هدفها النظرى على الأقل معاقبة الذين تورطوا فى قتل الحريرى. فما الذى خلق العلاقات العكسية بين هذه المحكمة وبين المقاومة؟ لقد أصبح الإعلان عن التمسك بمحكمة الحريرى حتى تعاقب المتورطين فى أحداث الاغتيالات التى بدأت بالحريرى أمرا مستفزا للمقاومة، بل أعلنت المقاومة أن كل من يؤيد المحكمة معاد للمقاومة، فلاشئ يجمع بينهما بعد الآن. فما الذى حدث حتى يكون التناقض بينهما قائماً، وحتى تتهم المقاومة المحكمة بأنها أنشئت خصيصاً للقضاء على المقاومة؟ بدأت القضية بقرار استهداف لبنان وسوريا وفك الارتباط بينهما وتحويلهما إلى أطراف متعادية، لأن فى لبنان المقاومة التى مرغت كرامة إسرائيل فى الوحل عام 2000، وفى سوريا نظام جديد مقيم على دعمه للمقاومة كورقة وكالتزام ضد إسرائيل المعتدية والمزروعة فى المنطقة والتى تسعى إلى الهيمنة الكاملة عليها. لاشك أن صعود المقاومة، بل ونشأتها تعود إلى إسرائيل، فلولا غزو بيروت عام 1982 كأحد ثمار "السلام" بين مصر وإسرائيل لما نشأت المقاومة ولولا توحش إسرائيل وتصديها للمقاومة الفلسطينية لما نشأت المقاومة اللبنانية تعويضاً عن استسلام المنطقة للمشروع الصهيونى تحت مسمى "السلام" فكأن المقاومة اللبنانية هى استمرار للمقاومة الفلسطينية ولكن مع الفارق وهو أنها لبنانية وليست أجنبية كما رددت إسرائيل عن الفلسطينيين، وعن أنه احتلال فلسطينى للبنان واحتكاك مستمر بين الجانبين اللبنانى والفلسطينى طيلة الستينات حتى حسمته إسرائيل عام 1982 فلم تغادر لبنان إلا بعد مغادرة القوات الفلسطينية. الفارق الثانى هو أن المقاومة اللبنانية تحارب إسرائيل كلما اعتدت على لبنان، كما أنها تتصدى لها بسبب ما كان وما بقى من أراض محتلة. وإذا كانت المقاومة مدعومة من إيران، فإن إسرائيل مدعومة من العالم كله بما فيه المنطقة العربية، كما أن المقاومة اللبنانية تحارب عدوا للمنطقة بأسرها ووحشا أطلقه الغرب ينهش جسد الأمة العربية، ومن الطبيعى أن يرحب الشرفاء من أبناء هذه الأمة بأى مساعدة ضد هذا الوحش من أى طرف كان. ثم أن الهدف الاستراتيجى الذى يحدث التقاطع بين إسرائيل والمقاومة ومن ورائها إيران وسوريا هو تحرير فلسطين، وهذا هو بالضبط مادفع إسرائيل إلى تجنيد عملائها وحلفائها فى المنطقة الذين يسهمون فى تمكين المشروع الصهيونى وفقاً لاعترافات رئيس الموساد السابق عاموش يالدين المعلنة والمنشورة والتى لم يعلق عليها أحد مما عناهم فيها. هكذا خططت إسرائيل بعد استئناس النظم العربية لحشد الجميع للتصدى لهذه المقاومة اللبنانية ذات الأفرع الإيرانية والسورية والتى تعيق تقدم المشروع الصهيونى. بدأ المخطط بجدية واستمر ثلاث سنوات متعاقبة ثم استمر التربص، من فقد بدأ رسمياً بقرار مجلس الأمن الذى يسهم فى دعم المشروع الصهيونى وتشجيع التوحش الإسرائيلى وضياع حقوق الشعوب العربية مثلما يساهم الآن فى تفتيت السودان وفصل الجنوب بمساندة دول عربية لم تعد تفرق بين مصلحة الوطن ومصلحة النظم الضيقة. بدأ الاستهداف بقرار مجلس الأمن 1559 الذى وجه مباشرة إلى ما أسماه سلاح الميلشيات مع سلاح المخيمات الفلسطينية وأخلصت الأممالمتحدة لهم خلاصاً مشبوها فى تنفيذ مشبوه يناقض ميثاق الأممالمتحدة وأعقب هذا القرار اغتيال الحريرى فدخل مجلس الأمن بشدة على الخط باتهام مباشر لسوريا، ثم لجنة لتقصى الحقائق ثم لجنة للتحقيق كان كل همها البحث عن شهود الزور وفبركة الأدلة ضد سوريا، ثم تبعها إنشاء المحكمة. فاللجان والمحكمة لاتنشأ إلا لظواهر وليس لأفراد، كما أن المحكمة نشأت بقرار من مجلس الأمن كأداة فى يد المجلس ضد المقاومة، ولما ظهر أن شهود الزور هم أساس الاتهام، فكان طبيعيا أن يسقط الاتهام وتبحث المحكمة فى الأطراف الخفية وراء الشهود، ولكن المحكمة لم تكنرث خاصة وأنهاأطلقت سراح القيادات الأمنية اللبنانية التي سجنت انتظارا لأدلة لم تظهر بل ان المحكمة هاجمت حزب الله وتجاهلت القرائن التي قدمها. فالمحكمة نشأت أصلاً فى ظروف مشبوهة واتخذت شكل المحكمة وقرارات مجلس الأمن بعد أن أصبحت هذه كلها هى الشرعية الدولية أى التآمر على الأطراف التى تعترض المشروع الصهيونى، تماماً كما نشطت الجنائية الدولية ضد البشير حتى ترهبه ويسلم بتفتيت السودان وسط مؤامرة أمريكية مكشوفة تتحدي التخاذل العربي المحير، بينما المجرمون الإسرائيليون يفخرون بجرائمهم ويعتبرونها بطولات. كان طبيعياً أن تطالب المقاومة البت فى شهود الزور والبحث فى فلسفة المحكمة خاصة بعد أن نشرت إسرائيل أن المحكمة تريد أن تلعب دوراً مباشراً مساندا لها ضد حزب الله باتهام بعض عناصره باغتيال الحريرى لصرف الانتباه الي دور إسرائيل وحتى تحرق الساحة اللبنانية، اذ كيف يتآمر حزب شيعى وفق طرحهم على اغتيال قطب سنى، وهكذا تقوم الفتنة بين الشيعة والسنة فى العالم كله بدلا من تصدى الجميع للمؤامرة التى تحيق بكل العرب والمسلمين. ومن المعلوم أن عام 2004 هو عام القرار 1559، أما عام 2005 فهو عام القرار 1595 بإنشاء لجنة التحقيق بعد اغتيال عرفات بقليل، ولم يتحرك مجلس الأمن لذلك كما لم تتحرك المحكمة للقرائن التى قدمها حزب الله وتوجب افتراض أن إسرائيل بين المتهمين باغتيال الحريرى، بل إن المحكمة أرسلت محققيها للتفتيش عن النساء والطلبة الشيعة مما دفع الحزب إلى مطالبة الشعب اللبنانى بمقاطعة المحكمة وشن حرب شعواء على المحكمة. هكذا اتضح للعيان أن المحكمة بظروفها وسلوكها قد كشفت عن طبيعتها كأداة فى يد إسرائيل لاضطراب الساحة اللبنانية وتوريط حزب الله العدوان عليه. وهكذا نستطيع أن نفهم أن المحكمة هى ستار قانونى للمؤامرة على المقاومة، وكان أدلى بمجلس الأمن أن يشكل محكمة خاصة لمحاكمة المجرمين الإسرائيليين الذين أحرقوا غزة أمام أنظار العالم واغتالوا عن عمد وتخطيط شهداء أسطول الحرية، وتقاعس المجلس عن مجرد الأمر بالتحقيق الدولى فى هذه الجريمة. هكذا يجب التصدى للمؤامرة فى ثوبها القانونى وأن المدافعين عن المحكمة هم يدعمون إسرائيل بشكل ظاهر، بعد أن عرفوا حقيقة المحكمة التى أساءت إلى قدسية المحاكم وجلال القضاء. القضية هي دفاع عن قيم العدالة التي توظف في مؤامرات سياسية وتلبس أثوابا قانونية براقة فيكفر الناس بقيم العدالة مثلما دفعوا العرب الي الكفر بالعروبة التي تحت علمها اسبيحت قيم وأوطان ،والعروبة والعدالة كلاهما منها براء.