المعلومات التى قدمها السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله بشأن دور إسرائيل فى اغتيال الحريرى تبعث أكثر من رسالة وتخدم أكثر من هدف. لابد فى البداية من إيضاح الافتراض بأن هذه المعلومات موجودة منذ اغتيال الحريرى لكنها لم تكن معروفة – فيما يبدو- كاملة لحزب الله. وقد يدفع توقيت الكشف عن هذه المعلومات بعض المحللين إلى افتراض أن الحزب قدم هذه المعلومات حتى يدفع عن نفسه الاتهام الذى سربته المصادر الإسرائيلية، وأنه كان يملك هذه المعلومات من قبل ولم يتحرك إلا عندما حامت الشبهة حوله. وحتى لو صح هذا الافتراض فإن حزب الله كان يراقب مسيرة محكمة الحريرى وهو واثق أنها تسير فى اتجاه محكمة في إطار خطة سياسية تستهدفه بالأساس، لأن درجة أهمية أى طرف تتناسب مع درجة استهدافه، ومع درجة تعويقه للمشروع الصهيونى. ويدرك الحزب قطعاً أنه لا يمكن الفصل بين قدرة إسرائيل على تشويه الحقائق وتضليل التحقيق وبين استجابة واشنطن للمخطط الصهيونى، مادامت المسألة فى النهاية ترتد إلى هذا الصراع الأوسع بين مشروع استعمارى إحلالى صهيونى، وبين أمة هزمت إرادتها ولم يبق صامدا إلا مقاومتها الظاهرة والتى خاضت معارك عسكرية حقيقية أقنعت إسرائيل بأنها إزاء عقبة حقيقية بعد أن أخضعت الحكومات العربية لمتطلبات القهر الصهيونى. هذه المعلومات التى قدمت سواء كان مصدرها العملاء وهم أصدق قولاً من شهود الزور، المصدر الوحيد للاتهام لدى الطرف الآخر، أو كان مصدرها صور النشاط الأمنى والجوى فوق مسرح الجريمة تشكل كلها قرائن لا يمكن إغفالها من التحقيق كما تقدم أساساً صلباً للاتهام مادام الاتهام يظل كذلك حتى تمحصه المحكمة المختصة وفق إجراءات عادلة تفرز الحق من الباطل. ولكن اتهام إسرائيل يتعزز بثلاثة افتراضات حقيقية، كما يثير المشكلة الدائمة، ويصطدم بالحائط ويرتد إلى نقطة البداية. فنقطة البداية هى أن إسرائيل لديها مشروع مدعوم غربياً وأمريكياً وأن إسرائيل تستخدم كل الوسائل للمواجهة والاختراق والاغتيال حتى تضعف المقاومة لهذا المشروع، بل تحول مقاومة الجسد إلى سند لهذا المشروع كما رأينا فى بعض مناطق الجسد العربى حتى داخل فلسطين ذاتها فيما ظهر من عملاء مستترين وظاهرين. الافتراض الأول، هو أن من قتل الحريرى هو المستفيد من قتله ولا أظن أحداً من سوريا أو حزب الله يهمه قتل الحريرى بل إن الحريرى كان محسوباً على التيار العروبى القومى، وقد بهرتنى كلمته قبيل الاغتيال بأيام فى منتدى دبى للإعلام فيما أذكر وكانت نبراسا لأى عمل عربى فعال، كما كان الرجل صوتاً للعقل وكابحاً للتطرف. المستفيد الوحيد هو إسرائيل ولبقية الأطراف مصلحة محققة فى كشف الدور الإسرائيلى فإن تقاعس أحدهم لسبب أو لآخر فهى خيانة للرجل وإهدار لدمه . أهم مكاسب إسرائيل هي تمزيق اللحمة السورية اللبنانية، واضطراب النسيج اللبنانى وفرز القوى كما حدث تماماً بعد هذه الجريمة. الفرضية الثانية، هى أن المحكمة جزء من المخطط السياسى الذى بدأ بقرار مجلس الأمن 1559 وقد عالجنا هذا المخطط الذى اتخذ ثوباً قانونياً ليلبس الحق بالباطل فى ثلاثة كتب متتابعة بدءابكتابنا حول "المؤامرة القانونية على سوريا. فقد كان مجلس الأمن جاهزاً يوم الاغتيال ببيان رئاسى شكل لجنة لتقصى الحقائق قدمت فى نهاية تقريرها افتراضاً بأن الشك يحوم حول سوريا لمجرد أنها كانت تتمتع بنفوذ أمنى هائل فى لبنان، بل إن القرار 1559 نفسه تجاهل الحكومة فى لبنان ثم فرض القرار 1595 بلجنة التحقيق الوصاية على سوريا ولبنان ووضعهم جميعاً موضع الاتهام وعين هذه اللجنة وكيل الدم عن الحريرى ضد الجميع. الافتراض الثالث، هو أن المحكمة نشأت أصلاً بعد تحريف مهمة لجنة التحقيق التى كلفها قرار مجلس الأمن 1595" باستجلاء الحقيقة فى اغتيال الحريرى،" فإذا برئيسها الأول ميليس يجعل مهمة اللجنة البحث عن أدلة تثبت أن سوريا هى المتورطة فى قتل الحريرى، ثم أن اللجنة لم تنهى تحقيقها بأدلة ترشح بها المتهمين، وإنما استعجلت تشكيل المحكمة استناداً إلى أن الأدلة الحاسمة سرية وسوف تقدم إلى المحكمة،وذلك في سياق محاولات تطيع سوريا. ولما كانت الشكوك السياسية والقانونية تحيط بهذه المحكمة من البداية، فقد كان يتم التلويح بها فى الساحة اللبنانية لإرهاب الفريق الآخر بل بلغ بالبعض الثقة فى كراماتها أن اعتبر مجرد تشكيلها رادعا يوقف سلسلة الاغتيالات. المحكمة هدف نبيل فى شكله لكنه ملغوم فيمضمونه . فالتمسك بعدم إفلات المجرم من العقاب مبدأ نبيل، ولكن من هو المجرم الحقيقى؟ هذا السؤال الذى يرتد بهذه القرائن إلى نقطة البداية. أعتقد أن الكثيرين من أطراف مسرحية الحريرى يعلمون الحقيقة سواء من مسار التحقيق وتخبطه أو استعانة اللجنة بشهود الزور الذين فضحوا اللجنة وكشفوا زيفها أو باعتقال القيادات الأمنية حتى لا تضبط مستندات الحقيقة وشل يدها عن الملاحقة. لقد أشارت اللجنة فى إحدى تقاريرها الي أن عملية الاغتيال لا تقوم بها إلا دولة لديها إمكانيات هائلة، ثم أضاف محقق ألمانى نشر كتاباً عن الموضوع افترض فيه أن المادة المتفجرة هى نفسها التى استخدمت فى أحداث سبتمبر، وهى نفسها التى سقطت بها طائرة العال فوق أمستردام عام 1999، ولا توجد إلا فى مخازن البنتاجون، ولذلك كتبت منذ سنوات أن من اغتال الحريرى هو من رتب أحداث سبتمبر، وهو من خلط الأوراق فى العالم وفى المسرح العربى. ويبقى السؤال: هل تجرؤ محكمة -هذه خلفيتها -على مواجهة إسرائيل بكل هذه القرائن؟ وإذا كانت المحكمة نفسها تدرك دورها فما أهمية تزويدها بهذه القرائن مادامت تعمل وفق سيناريو سياسى فى ثوب العدالة الدولية البراق؟ فهل تستسلم المحكمة وتعترف وتنسحب أمام محكمة الحق وسطوع الحقيقة؟!. نقطة البداية هى أن تعود المحكمة إلى التفويض الأصلى فى القرار 1595 لتعرف على وجه اليقين من ارتكب هذه الجريمة النكراء؟. لا تختلف عندى محكمة الحريرى الهادفة إلى إشاعة باسم العدالة المزيفة، عن المحكمة الجنائية الدولية التى تسعى إلى تفتيت السودان باسم العدالة أيضاً، وهذا جديد من الاستعمار بعد أن انكشفت "رسالته المقدسة" فى تحضير شعوبنا وتمدينها.