الظاهر من التصريحات الرسمية وكتابات موظفى الحكومة المصرية أن مصر تضع نفسها فى قلب الساحة اللبنانية وكأنها طرف من أطراف الساحة، ومن حقى كمواطن متابع لهذه المعادلة أن أحدد أين أحب أن تضع مصر قدمها، إذا كان ذلك ضروريا، فى الساحة اللبنانية. ذلك أن مصر الرسمية وصحافتها الحكومية لا تملك الحق فى التعبير عن معظم الشعب المصرى وعن نخبه السياسية الوطنية المتعمقة حتى أذنيها فى دراسة حقائق هذه الساحة. فإذا كان الموقف يستهدف حقاً المصلحة المصرية وليست مصلحة مشبوهة من أى جهة أو إملاء على مصر وتوريط لها، فإننا يجب أولاً أن نوضح حقائق الساحة اللبنانية ومضمون المسألة اللبنانية فى هذه المرحلة، نوضح ثانياً الموقع الذى تواترت المواقف الرسمية والصحفية الحكومية على تأكيده لمصر ومدى انحرافه عن صحيح المصلحة المصرية الحقة. يجب أن نبادر قبل الإيضاح إلى التأكيد على أن مصر منذ عام 1979 بدأت رحلة الانكماش إلى الداخل وترك الساحة العربية مغنما لأعداء هذه الأمة، وآربك ذلك مصر فى أكثر من مناسبة فى محاولتها التوفيق بين هويتها العربية وبقايا مصالحها و تحالفاتها الجديدة ولذلك فإن موقع مصر الجديد فى المعادلة الإقليمية عموماً فى إطار نظرة واشنطن إلى دور مصر فى المنطقة هو الذى جردها من كل أوراق التأثير لخدمة المصالح المصرية فى العالم العربى، وكأن مصر قد قنعت بأدوار لاعلاقة لها بمصالحها. ولذلك فإن المتأمل لمجمل المواقف المصرية من لبنان وقضاياها لا يخطئ فى القول بأن مصر تضع نفسها فى مواجهة المقاومة اللبنانية بشكل مباشر وإذا كان حزب الله يتجسس حقاً على مصر فتلك شهادة بأن انسحاب مصر إلى الداخل قد وسع دائرة التحرش بالتدخل فى الداخل المصرى. وقد سبق أن كتبت عن علاقة مصر بحزب الله وقلت أن مصر الرسمية من خلال المواقف والتصريحات تنظر إلى الحزب نظرة مزدوجة، فهو من ناحية حزب مقاوم لإسرائيل، وهو من ناحية أخرى حزب مدعوم من إيران ويمثل أحد خطوط التماس بينها وبين المنطقة العربية وفى قلب الصراع العربى الإسرائيلى. وفى الحالين لا أظن أن لمصر مصلحة فى التصدى لهذا الحزب، فتلك ليست قضيتها، لأن مصر تتهم دائماً صواباً أو خطأ بأنها ضد المقاومة عموماً دعماً منها لإسرائيل وانسجاماً مع دور دول الاعتدال، ولكن لماذا تنفرد مصر بالاحتكاك بحزب الله دون سائر دول الاعتدال، وأهمها السعودية وهى صاحبة الأوراق الكثيرة فى المنطقة وفى لبنان لا تملك مصر ورقة واحدة خاصة بها حتى بدت مصر وكأنها صدى لما تريده إسرائيل وأمريكا، ويؤكد الافتراض بأن جوهر المشكلة فى مصر ليس فساد نظامها السياسى بقدر ما هو استلاب إرادتها الحرة القادرة على تحديد مصالحها القومية وخدمة هذه المصالح. وإذا كان موقف مصر من حزب الله ثابتاً ثبات موقف واشنطن وإسرائيل، فإن موقف مصر من إيران يتأرجح تأرجح موقف أمريكا منها وإن ظل موقف إسرائيل من إيران وبرنامجها النووى ثابتاً وفى الحالين، حزب الله وإيران، يجب على مصر أن تحدد مواقفها وفق مصلحة تفرض عليها إن لم تساعد المقاومة ضد إسرائيل أن تكف عن التصدى لهذه المقاومة، بل لاحظ المراقبون فى هذه النقطة أنه ليس صدفة ذلك التوتر المستمر بين مصر وكل المقاومات العربية: حماس: وحزب الله، وربما المقاومة العراقية مما يقطع بأن المشكلة هى أن مصر غيرت موقعها إلى موقع جديد دفعها إلى مواقف لا تنسجم مع مصالحها كما نفهمها نحن المثقفون فى مصر وإلا ما الذى يدفع مصر إلى التأكيد فى بداية العدوان الإسرائيلى المدبر على لبنان 2006 على إدانة حزب الله وبأنه الذى اعتدى، وليس مطلوباً من مصر حتى أن تكون حكماً أو أن تعلن رأياً، صار أساساً للمواقف الإسرائيلية الرسمية، ولولا صمود حزب الله الذى انقض عليه أعضاء الفيلق العربى الصهيونى فى مصر، لأنهالت أوصاف الحكمة وبعد النظر والموضوعية والمصداقية على الموقف المصرى. ويعلم الجميع أن موقف مصر من إيران ليس مفهوماً ولايخدم المصلحة المصرية، وبالقطع فإنه ثبت أن مصلحة مصر الحقيقية تحتاج إلى تأمل دراسة وتنقية مما يشوبها ويلتبس بها من مصالح الآخرين، لأننا نرفض أن تحارب مصر معارك غيرها وهى أمريكا وإسرائيل وأن تضحى بمصالحها. عنوان المرحلة هو محكمة الحريرى، فسارعت مصر وسط الجدل القائم فى لبنان إلى تأييد المحكمة والصحيح أن مصر ليس مطلوباُ منها ذلك، كما أن هذا الموقف ليس مصلحة واضحة لنا. فإن قيل أن المحكمة هى رمز عقاب من اغتالوا الحريرى والرموز اللبنانية الأخرى، قلنا أن المحكمة – بيقين – آداة حقيقية لضرب الساحة اللبنانية واستئناف ما أراده قرار مجلس الأمن 1559 فى لبنان وفصم عرى العلاقات السورية اللبنانية فهل من مصلحة مصر المساندة العلنية لهذه المحكمة، وليس هناك فرق بين موقف المحكمة الجنائية الدولية من البشير الذى أدانته مصر مع بقية العرب والمسلمين والأفارقة، ووضع محكمة الحريرى وملحمة الحريرى عموماً التى اعترف بدور إسرائيل فيها عاموس يادلين مدير الموساد السابق وهو يقدم كشف حساب الموساد فى العالم العربى وفى مقدمته مصر ساحته الأوسع. ليس من حق مسئوول فى مصر أن يحتكر عن عمد أو جهل الزج بمصر فى الساحة اللبنانية أو غيرها، فرشادة المواقف المصرية تعتمد على كفاءة وعلم المسئولين عنها، وعن أنهم يمثلون الشعب فعلاً، وهذه قيمة النظم الديمقراطية التى تجمع العلم مع الوطنية والتميز للمصلحة الوطنية فى العلاقات الدولية. المعيار الحاسم فى مواقف مصر يجب أن يعتمد بشكل مطلق على بيان المصلحة المصرية المشروعة والوطنية التى تخدمها هذه المواقف وأخيراً لابد أن نذكر أن عدوان إسرائيل واحتلالها لبيروت ونشأة حزب الله وتدخل إيران فى التحليل الكلى هو جزء من عملية حلول إيران محل مصر المنسحبة بموجب معاهدة السلام، وإذا كانت مصر تطالب سوريا بفك التحالف مع إيران، فلتعد مصر إلى موقعها العربى حتى يتم تحجيم إيران إذا كانت تلك من صلب المصالح المصرية. أعلم أن كتبة النظام وأبواقه لاتربحهم المعالجات الهادفة إلى إيقاظ وعى المصريين على مصالح مصر، كما أعلم تماماً أن الفيلق العربى الصهيونى الذى انقض على يوم ساندت أهل غزة يوم إحراقهم وانتقدت موقف مصر فقد آن أوان المواجهة والفرز، فنحن الوطنيون العملاء لمصر دون غيرها نرفض هذا الفيلق المندس بيننا ويخدم مصالح أعدائنا الذين جندوهم لخيانة وطنهم، وأكرر للمرة المليون: تعالوا إلى مناظرات علنية ليعرف الشعب أينا عميل مصر الفخور بعمالته وأينا يخدم مصالح أعدائها ويحتكر الساحة الإعلامية والسياسية ظلماً للتعبير بهتانا عن ملايينها وعن مصر التى تسكب الدمع على اعتقال إرادتها والادعاء زوراً بتمثيل والتعبير عن إرادتها.