قبل حوالي خمسة عشر عاما أو يزيد كانت الصحافة المصرية تمر بتحدي كبير متمثل في تعديلات قانونية أراد الحزب الحاكم تمريرها تمس حرية التعبير فانتفض الصحفيون من أجل الدفاع عن رسالتهم ومهنتهم ، وعقدت اجتماعات حاشدة في القاعة الرئيسية للنقابة القديمة ذات الحديقة التاريخية التي ملئت جوانبها بذكريات لا تمحى لأجيال عديدة ، وبينما كنا في الاجتماع الحاشد إذا بالمرحوم الأستاذ إبراهيم شكري رئيس حزب العمل ورئيس مجلس إدارة صحيفة الشعب في وهجها الكبير يدخل إلى القاعة فصفق كثير من الحاضرين تكريما لقدومه وتقديرا لتضامنه مع الصحفيين ، فإذا بالأستاذ جلال عيسى وكيل النقابة "القوي" في ذلك الحين يقطع السكون الذي أعقب التصفيق لإبراهيم شكري ثم يوجه كلاما عصبيا للغاية وصادما وبصوت مجلجل إلى رئيس حزب العمل وأحد الأقطاب التاريخية للتجربة الحزبية في مصر قائلا : يا أستاذ إبراهيم نحن نحترمك ونقدرك كمناضل سياسي وزعيم حزب كبير ونشكر لك تعاطفك مع الصحافة والصحفيين ، ولكن هذا اجتماع للصحفيين يناقشون فيه تحديات خاصة بمهنتهم وإني أرجوك أن تغادر القاعة حتى لا يتم تسييس قضيتنا النقابية وتحويلها إلى مزايدات بين الأحزاب ، كانت الكلمات عنيفة وصادمة ومفاجئة ، لكن الغريب أن القاعة تلقتها بهدوء عجيب يعبر عن ترحيب بها وتقدير لدوافعها . تذكرت هذا الموقف وأنا أتابع الوفود "النضالية" التي تذهب وتجييء على نقابة الصحفيين بدعوى التضامن مع صحفيي الدستور المتوقفين عن العمل بعد إقالة رئيس التحرير إبراهيم عيسى ، قيادات أحزاب ومرشحين للانتخابات البرلمانية ومثقفين يحاولون حجز مساحة نشر مبكرة عند هذا أو ذاك ، في الوقت الذي تتخذ فيه النقابة ذاتها موقفا سلبيا أمام حملة ابتزاز كبيرة تحاول تصوير كل من يتحفظ على موقف إبراهيم عيسى أو مجموعته بأنه خائن للوطن والوطنية وعدو لحرية الصحافة ، ولا تملك النقابة ومجلسها أن تتخذ موقفا لحل مشكلة الزملاء "الغلابة" المغرر بهم الآن والذين يتخذهم "الزعيم" وقودا لحرب ليسوا طرفا فيها بالأساس ، وهم شباب قليلو الخبرة بالوعي النقابي والنضال النقابي ، ويتم التلاعب بمشاعرهم بطريقة رخيصة ، ودفعهم إلى مواقف ساذجة تضر للغاية بحقوقهم وتحولهم نقابيا إلى مدانين وليسوا أصحاب حقوق ، وكل من أراد أن يتاجر بالنضال الآن يمر على هناك ليسجل كلمتين أو يهتف بهتافين أو يندد ويشجب ، ثم يكمل طريقه إلى بعض مقاهي وسط البلد ، وفي خضم تسييس الأزمة ، بينما القلق والإحباط يمزق هؤلاء الغلابة الذين لا يعرفون مصيرهم ، لأن بعض "الزعماء" الذين أتخموا بالملايين والفيلات والشاليهات لن يعنيهم كثيرا أن يبقوا شهرا أو شهرين أو حتى عامين بدون أي عمل ، لكن هؤلاء العشرات من الصحفيين الشباب البسطاء من الجنسين معظمهم من المكافحين وأصحاب البيوت المفتوحة والمسؤوليات الأسرية والذين كانوا يتقاضون الفتات الفتات الحقيقي مما يتبقى من "مائدة الزعيم" ، وكان أولى بمن عرض الملايين لعودة "المليونير" إبراهيم عيسى أن يعرض دفع راتب شهر أو شهرين لهؤلاء "الغلابة" لتصريف شؤونهم الحياتية حتى تنفرج الأزمة ، فهذا أجدى من الخطب والتنديد والشجب والاستنكار . أتمنى أن يتخذ الأستاذ مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين وغالبية مجلس النقابة معه قرارا عاجلا ومن طرف واحد ، يقضي بعودة جميع الزملاء لعملهم في الصحيفة ، مع تقديم النقابة ضمانا منها هي ، كمحضن وملاذ قانوني أصيل ، لحقوقهم المهنية والأدبية ، وقد أعلن رضا إدوارد والسيد البدوي أكثر من مرة أنهم ملتزمون بذلك ، وفي كل مرة تظهر عقبة مضحكة وكوميدية تعطل الاتفاق ، كما أنه لم يعد يخفى أن هناك مجموعة صغيرة من صحفيي الجريدة ترتبط مصالحهم الخاصة بشخص إبراهيم عيسى وليس بالجريدة ، ولا يمكن أن يظل هؤلاء مختطفين لقضية العشرات من الزملاء الصحفيين ويمارسون الإرهاب ضد كل من يفكر أن يستأنف عمله في الصحيفة ، النقابة وحدها هي الوصية على مصالح الزملاء النقابية وليس أي شخص آخر ، سواء كان صحفيا أو سياسيا ، ينبغي على النقابة أن تنهي هذه المهزلة ، وأن يستأنف الزملاء عملهم بكرامة في صحيفتهم ، دون النظر لشخص رئيس التحرير أو ترويسة الصحيفة ، الصحيفة ليست حزبا سياسيا ، ولا جمعية خيرية ، ولو ترك الأمر لكل مجموعة صحفية أن تشترط أن تحدد رئيس التحرير ومدير التحرير ونواب رئيس التحرير .. إلى آخره ، لأصبح الأمر فوضى . لقد سرب إبراهيم عيسى أمس خبرا يقول أن المجلس الأعلى للصحافة يتساهل مع مجلس الإدارة الجديد في الدستور أو يتوطأ معه ، وفي يقيني ، وأنا مسؤول عما أقوله ، أن الضربة التي وجهت إلى إبراهيم عيسى في الدستور أصابت رئيس المجلس الأعلى للصحافة في الصميم بشكل مباشر وأساسي وكسرته ، وأتصور أنه عما قريب سيسدد صفوت الشريف ضربته المقابلة انتقاما من هذه "الإهانة" التي لحقت به بإطاحة أحد "أبنائه" الذي ظن من فرط الأمان وقوة الظهير أن الدستور بمجلس إدارتها وصحفييها وإداراتها مجرد خدم لديه وعمال يعيشون "من فضل خيره"!! [email protected]