كنت في العاشرة من عمري وقت حرب سبعة وستين ، تلك الحرب التي قالوا عنها نكسة ، وكنا نعيش في "إنشاص" حيث المطار الحربي وقوات الصاعقة ، كانت قلوبنا ممتلئة بالحياة وكانت حدائق الإصلاح الزراعي و "جنينة النباتات" و " جنينة الصبار " ذات الشهرة العالمية تدعونا وتدفعنا للانطلاق ، وإذ كنا نرى جنود الصاعقة وهم يقومون بتدريباتهم القتالية بقوة وجدية على ضفة "ترعة الإسماعيلية" تنتشي أفئدتنا وتنطلق أقدامنا نتسابق معهم في طابور صاعقة وهمي من " أطفال إنشاص " ، وكنا نحاكيهم ونقلدهم في حركاتهم ونجري بجوارهم ونحن ننشد الأناشيد التي تتهكم على قادة إسرائيل فنقول في نغمة مرتبة " جولدا مائير بنت القباقيب هانموتها ف تل أبيب " و " موشى ديان من غير ما نقول وشه زي وش الغول " . وفي صباح الخامس من يونيو استيقظنا على زئير الطائرات وأصوات الإنفجارات ، ورغم تنبيهات الآباء المشددة لنا بعدم الخروج والانتظار لحين معرفة الأخبار إلا أننا تسللنا من بيوتنا نستطلع الأمر ، وانطلقنا كالعفاريت صوب مطار إنشاص وقبل أن نصل إليه وجدنا عشرات الجنود وهم يجرون في الطرقات بشكل عشوائي وكأنهم يفرون من جهنم الحمراء ، ويصرخون في وجوهنا كي نعود أدراجنا إلى بيوتنا ، سمعناهم وهم يقولون حين دلفوا للاختباء في الحدائق التي تجاور " قصر الملك " الذي أصبح مقرا لقائد القوات الجوية : ضربونا واحنا نايمين ... ويبدو أن الضربة جاءت لنا بالفعل حين كانت مصر نائمة !! وحملنا الهزيمة في قلوبنا الغضة فأورثتنا إحساسا بالانكسار وشعورا بالمهانة ... ظل هذا الإحساس مصاحبا لنا منطبعا في نفوسنا إلى أن تجاوزنا مرحلة الطفولة ودخلنا إلى مرحلة الصِبا . وفي القاهرة كانت المحطة الثانية من حياتي حيث انتقل أبي رحمه الله في وظيفته من إنشاص إلى القاهرة ، وفي شارع "طومان باي" بالزيتون كان بيتنا الذي وضعنا رحالنا فيه ، وفي مدرستي الإعدادية تعرفت على مجموعة نقية من الأصدقاء كان منهم أسامة فرهود وحاتم عبد اللطيف وجرجس شكري ومحمد عبد الخالق ، ومع هؤلاء كان صديقي "جمال نجاتي" الذي كان يفوقنا علما وخلقا ومثابرة ، ووصل تفوقه إلى أن أصبح بشكل دائم هو الأول على المدرسة بلا منافس . كان جمال هو الإبن الأكبر للصول "نجاتي" أحد أفراد قوات الصاعقة المصرية ، وحين توثقت الصلات وأواصر الصداقة بيني وبينه كنت أذهب للمذاكرة معه في بيته المتواضع الكائن بإحدى الحارات الضيقة المتفرعة من شارع جانبي متفرع بدوره من شارع " دار السعادة " ... وفي صالة المنزل الصغير ، كانت الحاجة " أم جمال " تحمل لنا أكواب الشاي وهي تتحدث معنا على سجيتها ثم تنهي حديثها معنا وتغادرنا وهي تدعو لنا بالنجاح والفلاح . كنت أرى والده صاحب القوام القوي والسحنة النيلية السمراء وهو يختم صلاة العشاء ويكثر من الأدعية وهو يرفع يده للسماء ، وحين كان يلهج لسانه بالدعاء كنت أسمعه وهو يقول لرب العزة في خشوع وتضرع " اللهم انصرنا عليهم ورد لنا كرامتنا فأنت القادر ولا قادر إلا أنت " . ومرت سنوات قليلة ودخلنا إلى المدرسة الثانوية ، وظل جمال صديقا أثيرا لديّ لا أغادره ولا يغادرني ، ورغم أنه دخل إلى مدرسة غير مدرستي إلا أننا كنا نلتقي دائما دون انقطاع ، وكانت الزاوية الصغيرة المسماة "زاوية مركز الشباب" والكائنة بآخر شارع طومان باي تجمعنا وقت الصلاة وعند صلاة الجمعة حيث كنا نستمع فيها إلى خطبة "الشيخ فتحي" فنستزيد من علمه وتتحرك قلوبنا من أدعيته . ونظرا لأن مدرسة جمال كانت قريبة من مدرستي فكنا قد اتفقنا على أن نلتقي بعد اليوم الدراسي لكي نعود إلى بيوتنا معا في صُحبة طريق يومية ... وجاء اليوم المشهود .. يوم السادس من أكتوبر من عام ألف وتسعمائة ثلاثة وسبعين ، ذلك اليوم الذي قفزنا فيه بخيالنا إلى عنان السماء وجرينا صوب بيوتنا نسابق الريح ، فقد سمعنا في الشارع صيحات الله أكبر ترتفع مدوية في السماء ورأينا الدموع تنسكب من عيون الرجال والشباب في فرحة أسطورية ، كان جنودنا يعبرون بنا إلى نصر تاريخي ، لم يكن العبور هو مجرد عبور حاجز رملي فقط ولكنه كان في المقام الأول عبور حاجز نفسي آن به أن ينتهي الانكسار والإحباط والمهانة وأن تعود به العزة والكرامة. كان الكل يقول في الشارع : "ضربناهم ضربناهم ولادنا عدّوا على قفاهم " ... وبغير شعور منا أخذنا نقول ونحن نجري في الطريق : ها نحارب ها نحارب يا اسرائيل يا أرانب . وتعطلت المدارس فأخذَنا أبي لنكون في فترة الحرب في معية جدي لأمي رحمه الله في قرية السعيدية بالشرقية حيث كان كبيرها وعمدتها ... وكان أن وضعت الحرب أوزارها وعادت لنا الروح ووقف المارد المصري بقوة على قدميه وهو يصيح الله أكبر رافعا هامته أمام العالمين بعد أن وقع في ظن الجميع أن مصر لفظت أنفاسها وخرجت من التاريخ .. وحين بدأت مباحثات "فك الاشتباك" عادت الدراسة إلى انتظامها فعدنا إلى القاهرة ، وفي حارة صديقي جمال نجاتي وجدت الزينة تطوِّق بيته من كل جانب وسمعت الزغاريد وكأنها تُعبر عن فرحة لا تتكرر ، فوقع في ظني أن والده عاد من الحرب فهرعت إلى منزله أقفز السلالم قفز الريح ، وأمام "بسطة السلم" المواجهة لشقته رأيت جمعا من الناس يشربون الشربات ورأيت الحاجة "أم جمال" تلك الأم الطيبة الوادعة وهي تجلس مع جمع من النسوة وكان وجهها مشرقا منيرا إلا أنه بدا وكأنه يحمل في قسماته طرفا من الفرحة وطرفا من الحزن المستتر والشجن الخفي ، وحين رآني جمال احتضنني بقوة وناولني كوب الشربات ... سألته وأنا أعب الشربات عبا : أين عم نجاتي فأخذني جمال من ذراعي ونزل بي إلى الشارع حيث انتحى بي جانبا وقال لي وقد اغرورقت عيناه بالدموع : هو الآن في أعلى فرحته وفي أعلى عليين ... يعز علي َّ أن فارقنا ولكن الله اختاره لكي يكون شهيدا .. وأذكر أنني قلت لجمال وأنا لا أكاد أصدق : كيف هذا ؟ فقال اسمع هذه القصة : كان أبي من أولئك الجنود البواسل الذين عبروا قبل العبور ليعبِّدوا الطريق للجحافل الظمآنة للعبور والنصر ، وحين تسلل هو وفرقته اشتبكوا مع كتيبة إسرائيلية وكان القتال عنيفا .. كانت مهمة الكتيبة الإسرائيلية هي عرقلة أي عبور لجنودنا وقصف دبابتنا بصواريخهم ، وكان القضاء على هذه الكتيبة أمرا لازما لكي يتم العبور دون خسائر أو بأقل خسائر ممكنة ، وعندما استعصت الكتيبة الإسرائيلية وتمنعت وتترست بحصونها كان لابد من أن يكون هناك عمل فدائي ، فطوّق أبي نفسه بكم من المتفجرات واخترق حاجزهم وهو يحمل أسلحته ورغم أنهم أصابوه إلا أنه ظل يتقدم بجسارة وقوة شكيمة حتى وصل إلى النقطة التي حددها فنزع فتيل المتفجرات التي كان يحملها فانفجرت وانفجر معها لتتطاير أشلاؤه الطاهرة تصيبهم باللعنات وبفضل الله تم إبادتهم جميعا ومن بعده استطاع فريق أبي من الفدائيين البواسل اختراق الحاجز وتأمين المكان ثم كان العبور ... لهذا يا صديقي نحن الآن في فرحة طاغية فأبي شهيد ومصر في عيد . وبعد سنوات طويلة كنت في لقاء مع صديقي أسامة فرهود في منطقة الزيتون وبعد أن انتهي اللقاء ذهبت إلى شارع طومان باي فمررت على مسجد " الشهيد عاطف السادات " ذلك المسجد الذي كان في صبانا زاوية "مركز شباب طومان باي" تلك الزاوية التي كنا نستمع فيها للشيخ فتحي ، ثم دلفت إلى شارع دار السعادة أسترجع ذكريات مضت وأتذكر أياما جمعتنا وصديقي جمال في هذا المكان وأياما فرقتنا بعد أن أصبحتُ محاميا وأصبح جمال نجاتي طبيبا شهيرا في استراليا وإذ نظرت إلى الحارة التي كان يسكن فيها جمال وجدت لافتة مكتوبا عليها " حارة الشهيد نجاتي " .