سافرت إلى اليمن ضابطا مع القوات المصرية التى سافرت إليها منذ اندلاع ثورتها عام 1962، ولحسن حظى أننى كنت فى الوحدة التى كان النقييب نبيل لوقا أحد أفرادها فى النصف الأول من عام 1964، والذى يعد أول شهيد مصرى على أرض اليمن فى هذه المرحلة، سافرت قبل عيد الفطر بخمسة أيام، وفور سفرى، كان هناك من الأحداث التى كان لها تأثير كبير على نفوسنا نحن قوات الصاعقة، وكذلك نفسية المدنيين اليمنيين، أذكر منها أن الرائد صاعقة عبدالمنعم سند كان له دور مشهود فى هذه الحرب، وكان محبوبا من اليمنيين لدرجة أنه كان صديقا شخصيا للشيخ الغادر زعيم قبائل وجيش منطقة أرحب، ووصلت هذه الشهرة إلى السعودية، فما كان من الإمام البدر وأعوانه إلا أن رصدوا مليون ريال يمنى لمن يأتى برأس الرائد سند، وقام عملاء الإمام البدر بإرسال سيارة الشيخ الغادر إلى الرائد سند كما كان معتادا وتم قتله، وبعد ذلك لم نكن ندخل منزلا يمنيا إلا ونجد صورة الشهيد عبدالمنعم سعد إلى جوار المشير السلال، وإن دل هذاعلى شىء فإنه يدل على حب اليمنيين لنا كمصريين. كما أن اليمنيين مازالوا يدينون بالفضل للمصريين الذين علموهم كثيرا من ضروريات الحياة وخلصوهم من عبودية وذل الإمام البدر. هذا ما كنا نراه فى معاملة اليمنيين لنا، وبالطبع هذا كان أبلغ رد على من بدعون أن اليمن كانت فيتنام المصريين وعبدالناصر، وأن اليمنيين كانوا يكرهون المصريين، هذا ما حدث فى أول مرة سافرنا فيها إلى اليمن. فى المرة الثانية حينما سافرنا إلى اليمن عام 1966 حدثت أمور غاية فى الأهمية ذلك أننا قمنا بإنشاء مدرسة للصاعقة وأخرى للمظلات.... إلخ، وقمنا بتدريب وإنشاء وحدات مقاتلة من أفراد اليمن حتى تحمل على عاتقها الحفاظ على الجمهورية، وكنا نتجول بحرية تامة فى أرجاء اليمن، لأن الأمور تحسنت وأصبح هناك جيش ووحدات تستطيع القيام بمهامها، وأثناء تعليم الجنود والضباط اليمنيين الأمور الخاصة بالجيش كنا نعلمهم كيفية الأكل والشرب والملبس وكيفية التعامل فى شتى نواحى الحياة، لأنهم لم يكونوا يعلمون إلا قليلاً عن هذه الحياة، وقد عاصرت هذا الوضع حينما كنت طالباً بالكلية الحربية، حيث وصل إلى الكلية الحربية عدد من الطلبة اليمنيين، وطلبوا منا أن نعلمهم كيف يعيشون الحياة الحضرية فكان كل طالب مصرى بجانب طالب يمنى، وللأسف كان الطلبة اليمنيون لا يعرفون كيف يدخلون الحمامات وكيف يتعاملون معها، زيضا لم يكونوا يعرفون الصابون، وأشياء أخرى كثيرة وضعت على كاهلنا ونحن طلبة، والغريب أننا كنا نسأل الطالب اليمنى عن مؤهله فمنهم من يقول حاصل على الإعدادية ومنهم من كان يعمل بالرعى ومنهم من كان يقرأ ويكتب بالكاد، وقد بذلنا مجهودات كبيرة حتى تم تعليمهم شئون الحياة. فى عام 1967 وبالتحديد يوم 5 يونيو، فى هذا اليوم الساعة الثامنة صباحاً فوجئنا بالإذاعة تعلن عن قيام القوات الإسرائيلية بضرب القوات المصرية، وكان مكان وحدتنا بجانب مطار صنعاء الحربى، ففوجئنا بطائرة اليوشن 14، تهتز فى الجو وهى تهبط، وللأسف عبرت الممر واستقرت فى الرمال خارج المطار، وبالتوجه إلى الطائرة وسؤال الطيار، علمنا أن الطيار فوجئ بالحرب فى مصر، فاهتز نفسياً وحدث ما حدث. فى الوقت نفسه كانت القوات المصرية تحارب إسرائيل، وكنا هنا نستقبل الجرحى والقتلى من القوات المصرية على الحدود اليمنية السعودية فى نجران وجيزان، حيث كان الجيش السعودى يحارب القوات المصرية على الحدود. كنا فى حالة نفسية لا يتصورها عقل، ورفعت حالة الاستعداد إلى الحالة القصوى منتظرين أى عمليات. واذا كان هناك من يقول أن الاتحاد الاشتراكى استطاع أن يخرج جموع الشعب المصرى عن بكرة أبيها ليحاولوا إثناء عبدالناصر عن التنحى. فهل كان فى اليمن اتحاد اشتراكى، كى يخرج اليمنيون من أعالى الجبال أو بهبطون من أعالى الجبال والقرى التى حول صنعاء متوجهين إلى صنعاء فى مظاهرات عارمة وصاخبة؟ بل الأغرب من هذا أن يخرج النساء اليمنيات المنتقبات اللاتى لم تكن تراهن إلا نادراً، وهذه الجموع تنادى وتناشد عبدالناصر بالاستمرار فى الحكم، وامتلأت صنعاء وحدها بأكثر من مائة ألف يمنى ويمنية يهتفون بعودة الزعيم عبدالناصر، وقد وصل سعر الراديو الترانزستور الذى كان سعره ثلاثة ريالات إلى عشرين ريالاً، وارتفعت الأصوات فى مكبرات الصوت فى جميع أنحاء صنعاء فى المساجد والشوارع، وقد علمنا أن هذا أيضاً حدث فى جميع أنحاء مدن اليمن. ووقفت جموع الشعب اليمنى أمام القيادة العربية متوسلين أن تبعث رسائل إلى مصر تنادى بعودة عبدالناصر. وفى النهاية علت الأصوات بالهتاف لعبدالناصر بعد سماع بيان أنور السادات بعودة عبدالناصر إلى الحكم، وهنا أطلقت الزغاريد والهتافات وإطلاق النيران والطلقات فى الهواء احتفالاً بالعودة، وعلى ما أعتقد أن هذا حدث فى باقى الدول العربية. وعن مدى تعلق اليمنيين بالمصريين أقول: علمنا أن هناك مباحثات بسحب القوات المصرية من اليمن وإحلال محلها قوات أخرى من عدد من الدول العربية. وكانت مهمتى فى هذا الوقت حراسة القيادة العربية، والقوة التى كانت معى من الجنود والضباط لا تتعدى الأربعين فرداً فقط. وحوالى الساعة التاسعة صباحا فوجئنا بأعداد كبيرة من اليمنيين يتظاهرون أمام القيادة، العربية مطالبين بعدم إحلال قوات أخرى مكان القوات العربية المصرية، وقام أحد القادة المصريين بالتوجه إلى المتظاهرين وإبلاغهم بأن القوات المسلحة لا شأن لها بالأوضاع السياسية، وأن هذا الموضوع يخص السفير المصرى فى اليمن ورجاهم بالتوجه إلى السفارة المصرية ومقابلة السفير المصرى، وكان السفير المصرى فى هذا الوقت يدعى عبدالرحمن النكلاوى، وبالفعل توجه المتظاهرون إلى السفارة المصرية ولا نعلم ماذا حدث بين السفير والمتظاهرين. أما من ناحية القيادة العربية فى اليمن فقد أرسلت رسالة إلى وزارة الحربية فى مصر توضح لهم الموقف بأن اليمنيين لا يريدون قوات بدلاً من القوات المصرية، وقد علمنا أن هناك بعثة مصرية قادمة إلى اليمن لدراسة الموقف تتكون من الفريق محمد فوزى، ووزير خارجية السودان، ووزير الخارجية الجزائرى، هذا على ما أذكر، وأوضحت الرسالة التى أرسلت إلى مصر أن الشعب اليمنى قام بمظاهرات لرفض موضوع تبديل القوات المصرية بقوات عربية، وأنهم سوف يقومون بمظاهرات أكبر فى حدوث ذالك. فى اليوم الثانى وبعد حوالى ساعتين من وصول البعثة إلى القيادة، تجمع ما لا يقل عن مائة ألف متظاهر، وهتفوا بهتافات عدائية ضد مصر والعرب، وتوجهوا إلى البوابة الرئيسية وأغلقناها ووضعنا سدادات طرق أمامها، ووقفنا أمام البوابة نحاول التفاهم مع المتظاهرين، فما كان منهم إلا أن بادرونا بوابل من الشتائم، ثم قذفونا بالحجارة، وقد أصبت فى عينى بأحد هذه الحجارة ثم تطور الأمر إلى استخدام طلقات الرصاص من المتظاهرين، وأيضاً من أسطح وشبابيك المنازل التى بجوار القيادة، ودارت معركة بيننا وبين المتظاهرين وقع على إثرها عدد من المصابين من قواتنا الذين كان عددهم لا يتجاوز 40 فرداً، حيث كان الاشتباك بيننا وبينهم بالأسلحة الصغيرة، من جانبنا الأسلحة الآلية، ومن جانبهم الأسلحة نصف الآلية. بدأ المتظاهرون فى الفرار من أمام القيادة، تاركين وراءهم بعض الأسلحة نصف الآلية والجرحى، والشىء الخطير فى هذا الموقف أن المتظاهرين عندما تركوا القيادة متوجهين إلى داخل صنعاء أخذوا يقتلون كل مصرى سواء كان مدنياً أو عسكرياً يجدونه فى طريقهم. فى حوالى الساعة السادسة مساء تلقيت أوامر بأن أتجه إلى داخل صنعاء فى عربة مدرعة لأحاول جمع جثث القتلى المصريين، فى أول ضوء من اليوم التالى ظهر أربعة أفراد يرفع أحدهم علماً أبيض ويتجهون نحونا، فأبلغت المقدم محمد صادق بذلك، فأمرنى ألا أفتح النار وأنتظر حتى نرى ما يريدون، وبالفعل انتظرنا حتى وصلوا إلينا، وكان على رأس الأربعة أفراد الشيخ عبدالله الأحمر شيخ مشايخ قبائل خولان، وأبلغنى أنه يريد أن يقابل أحد القادة وعلى الفور اتصلت بالقيادة، فأمرت أن أحضرهم إليهم، وعدت إلى موقعى خلف القيادة «على السور الشائك» حتى أراقب الموقف. وعاد الشيخ إلى قواته ثم رحلوا من حيث أتوا ولم يحدث أى اشتباك، فى صباح اليوم التالى صدرت لى الأوامر أن أفتح البوابة الرئيسية للقيادة والسماح لرجال الشيخ عبدالله الأحمر بالدخول، وكان الشيخ على رأسهم، ومعهم بعض الأفراد يجرون وراءهم عدد 5 بقرات، ودخلوا إلى ساحة القيادة وقاموا بذبح البقرات الخمسة، وألقى الشيخ عبدالله الأحمر خطابا اعتذر فيه عما حدث من المتظاهرين وأنه مستعد أن يقدم الترضية التى تراها، وأنه قام بذبح البقرات كدية وإن لم نقبلها فهو على استعداد لتقديم أى ترضية أخرى نرضاها، ورد عليه اللواء عبدالقادر حسن بخطاب قبل فيه الدية وشكره على هذا التصرف وأنه لا توجد أى نية لإحلال أى قوات بدل القوات المصرية. وبعد هذا الموقف غادرت البعثة أرض اليمن، رحل كل المصريين المدنيين من مدرسين وعمال وغيرهم، وكانت وحدتى آخر وحدة غادرت صنعاء إلى مدينة الحديدة «ميناء الحديدة» على البحر الأحمر، ومن هناك غادرنا اليمن على متن الباخرة «الجزائر» إلى ميناء أم الغصون فى جنوب مصر، ومنه بالعربات إلى إدفو ثم بالقطار إلى القاهرة ومنها إلى بورسعيد، ثم إلى رأس العش بعد أن اجتمع بنا فى أنشاص الزعيم جمال عبدالناصر، وقال لنا بالحرف الواحد ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وسوف نعمل ونتدرب ونبذل العرق والجهد لاسترداد سيناء وكرامتنا، وبعد هذا كانت معركة رأس العش، أرجو أن أكون قد أسهمت فى فهم ولو جزء صغير من تلك الحرب التى كثر الجدل حولها، وكثر ما كتب عنها مخالفاً لحقيقتها.