كم هالني المصاب العظيم الذي ألم بأخي الكريم الشيخ علي عبدالظاهر أحد قيادات الجماعة الإسلامية عندما سمعت بخبر استشهاد ابنه الثاني ياسر رحمه الله،ولم يمض وقت طويل على استشهاد ولده الأكبر حذيفة في فض اعتصام رابعة العدوية مخلفا وراءه زوجا حاملا،وقد زوجه أبوه منذ شهرين،فلما سمعت بخبر استشهاد ياسر،تذكرت شاعرا عربيا مخضرما عاش تلك التجربة الصادمة،وأنا أعلم جيدا مرارة الفقد فقد ذقته مرتين،أسأل الله أن يربط على قلوبنا أجمعين.
شاعرنا هو أبو ذؤيبٍ خويلد بن خالد الهذلي، وكُنّي بأبي ذؤيْب، نسبةٌ لولده الأكبر ذؤيب، وهو شاعر أدرك زمناً في الجاهلية وزمناً في الإسلام ممن عُرفوا بالمخضرمين وقد أسلم وجاهد مع الغزاة في سبيل الله، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله سنة 27 ه ، عنه، ولقصيدته هذه شهرة ذائعة قي الأدب العربي.
خرج الشاعر إلى الجهاد في سبيل الله، مع أولاده الخمسة، متَهيّئين لفتح إفريقية، في جيش عبد الله بن أبي السرح ثم عاد الجيش منتصراً، وفي الطريق انتشر وباءٌ جارف، أخذ الأولاد الخمسة في عنفوان الشباب، ورجع الوالد حزيناً متحسرّاً في حزن، ثم استسلم للشّعر يبثه أشجانه فكان مما قال:
أمِن المَنُونِ وريبها تتوجّعُ؟
والدهرُ ليسَ بُمعْتِبٍ مَن يَجْزَعُ
قَالَتْ أميمةُ: مَا لجسمِكَ شاحباً
منذ ابتذِلْتَ؟ ومثلُ مَالِك يَنْفعُ
أمْ مَا لِجنْبِكَ لا يلائمُ مَضْجعاً
إلاّ أقضَّ عليه ذاكَ المضْجعُ
فأجبْتها: أمّا لِجِسْميَ أنّه
أَودَى بَنيَّ من البلادِ فوَدَّعُوا
أوْدى بَنيَّ فأعْقَبوني حَسْرةَ
بعد الرُّقادِ، وعَبرةً مَا تُقْلِعُ
فَغبَرتُ بَعَدهُمُ بعيْشٍ نَاصِبِ
وإِخالُ أَنّي لاَحِقٌ مُسْتَتْبَعُ
وَلقدْ حَرَصْتُ بأن أُدافعَ عنهُمُ
وإذا المنيةُ أقْبَلَتْ لا تُدفَعُ
وإذا المنيّةُ أَنشَبَتْ أَظْفَارَهَا
ألفْيْتَ كلَّ تميمةٍ لا تَنْفَعُ
وتَجَلُّدي للشّامِتينَ أرِيهمُ
أَنّي لِريب الدَّهْرِ لا أتضعْضَعُ
حتّى كَأنّي للْحَوادِثِ مَرْوَةٌ.
بصفا المشقَّرِ كلَّ يومٍ تُقْرَعُ
لا بدَّ مِن تَلفٍ مُقيمٍ فانتظرْ
أَبأرْضِ قَومِك أمْ بأُخرى المَصْرعُ
وَلَقَدْ أَرَى أنّ البُكَاءَ سَفَاهَةٌ
وَلَسَوْفَ يُولَعُ بالبُكَا مَنْ يُفْجعْ
وليَأتينّ عَلَيْكَ يومٌ مَرّةً
يُبكَى عَلَيْكَ، مُقنّعاً لاَ تَسْمَعُ
والنَّفسُ رَاغِبةٌ إذا رغبّتَهَا
وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تَقْنَعُ
كمْ مِن جميعي الشّمْلِ مُلْتئمي الهَؤى
كَانُوا بَعَيْشٍ نَاعِمٍ فَتَصَدَّعُوا
فَلئِنْ بهم فَجَعَ الزّمَان وَريْبُه
إني بأهْلِ مَوَدّتِي لمُفجَّع. وقد صدق أبوذؤيب في تجربته وصار مثالا لكل أب مكلوم بفقد ولده، إذْ أنّه قول حق، فالموت يهجم في كل مكان قريباً كان أو بعيداً، أولا بدّ منه (وما تدري نفسه بأيِّ أرْض تَمُوت)، وقد بدأ الشاعر يُعاتب نفسه فيسائلها ما لها تتوجع هكذا من الموت؟ مع أن الدهر لا يسترضي المتوجعين العاجزين، ثم يردّ على زوجه، حين ترى شحوبه وهزاله فتسأله عن مصابه؟ وتقول إنه ابتذل نفسه في العمل الشاق، مع أنّ ماله يغنيه عن ذلك، وأن جسمه قلق في مضجعه لا يكاد يستقرّ في مكان حتى ينبو به وينفر منه، فردّ عليها الشاعر ليعلنَ أن موت أولاده كان السببَ في تغير حاله، إذ أعقبوه الحسرة والدمع حتى ليخيل إليه أنه لا يستطيع البقاء بعدهم، وكم حرص على حمايتهم والدفاع عنهم، ولكن الموت لا يُدفع، لأن المنية حين تنشب أظفارها لا ترد بالتمائم والتعاويذ! وهَا هو ذا مَعَ حسرته الشديدة يتجلّد ويتصبّر أمامَ الشّامتين، كيلا يفرحوا فيه، مع أنه يتعرّض للمصائب المتتالية كصخرة لا تزال تُقرع صباح مساء! وهو يعلمُ أن الموت قادم لا محالة، وأن الإنسانَ متعرضّ له في حِلّه، وترحاله إذ لا بد من الحمام؟ وإذا كان الأمر كذلك، فالبكاء على الراحلين سفاهة وحمق، مع أن المحزونين لا يتركونه بل يُولعون به! وإذا كانوا يبكون اليوم فسيُبكى عليهم في الغد"
إن النفس لتطمع ثم تطمع حتى إذا جوبهت بالواقع قنعت بالقليل، ولكّلٍ مصائبه وهمومه فكم من مجتمعين تفرقوا بعد العيش الناعم والأنس الشامل. ففي القصيدة صرخة إنسانية في موقفٍ لا يملكُ فيه الأب المفجوع بأولاده الخمسة غير البكاء والرثاء. ولكن مايصبرنا ويكون عزاء لشيخنا علي عبدالظاهر أن ولديه الشهيدين سبقاه إلى الجنة بلإذن الله سبحانه،يمهدان له طريق السعادة الأبدية،فقد قضيا رحمهما الله مع الكثير من إخوانهم الشهداء،وهم يقاومون الظلم والاستبداد بصدور عارية،وقلوب مفعمة بالإيمان وثقة في موعود الله سبحانه إما بالنصر أو الشهادة،وحسبنا أن دماءهم الزكية الطاهرة ستكون وقودا لعزة الإسلام والمسلمين ،وستتنزل لعنات متوالية على قاتليهم وجلاديهم،ولن تذهب تضحياتك يا شيخنا سدى،فعما قليل يزول الألم ويبقى الأجر ،(ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله).